د. يحيى جاد

 

هذه الأطوار للأزهر الشريف خُتِمَت بعهدٍ تَجَمَّعَتْ فيه عللُ ماضٍ طويل، وأَخَذَتْ تعمل عَمَلَها في صرف الأزهر عن التفكير والإنتاج، وعن كل نافع من العلوم العقلية والكونية، وانتهت مظاهر العلم والتفكير فيه إلى أن تغلبت المبادىء الآتية :

 

1- تَغَلَّبَتْ العنايةُ بالمناقشات اللفظية وتتبعِ كلمات المؤلفين في المصنفات والشروح والحواشي والتقارير: على الروح العلمية الموضوعية التي من شأنها أن تخدم الفكرة، بقطع النظر عما يتصل بها من لفظ وعبارات.

 

2- تغلبت روحُ التقديس للآراء والأفهام التي دونها السابقون، والسمو بها على مستوى النقد، وعدم الاكتراث بما قد يظهر من آراء جديدة، ولو كان لها من السداد والقوة ما لها.

 

3- تغلبت نزعة الاشتغال بالفروض والاحتمالات العقلية التي لا تقع وما يتصل بها من أحكام [..]،

 

ولقد أكثروا مِن هذا في العبادات والمعاملات، وأنفقوا فيه من الوقت والتفكير ما كان جديراً بهم أن يدخروه للنافع المفيد [..]،

 

فاشتغل المتأخرون بمِثْلِ هذه الفروض، وأعرضوا بها عن تنمية الفقه العملي الذي يحتاج إليه الناس في معاملاتهم وقضيتهم.

 

4- تغلبت نزعة الاشتغال باختراع الحِيَلِ التي يُتَخَلَّصُ بها من الحكم الشرعي !

 

ولقد تَنَاوَلَت هذه الحيلُ كثيراً من أبواب الفقه، ولم تَقِفْ عند الحد الذي أُثِرَ عن الأئمة (مِن جَعْلِهَا وسيلةً للتخلص من ضررٍ أو مكروهٍ)، بل افترضوا حِيَلاً يُسْقِطون بها الواجبات، ويُفْسِدون بها الالتزامات، فتجد حِيَلاً لإسقاط الزكاة، وحيلاً لإسقاط حق الشُّفْعة، وحيلاً لإسقاط عِدة المطلقة، وحيلاً لإسقاط الحدود، وهكذا مما لا يتفق ومقاصد الشريعة !

 

ولقد أَطْنَبَ ابنُ القيم – أحد أفذاذ علماء القرن الثامن في كتابيه : “إعلام الموقعين”، و”إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان”- في الرد على فكرة الاحتيال على هذا النحو، وبَيَّنَ أنها مضادةٌ لروح التشريع [..].

 

وإذا علمنا أن العناية بالاحتيال الفقهي وَصَلَ أمرُها إلى أن جعلوه فناً مِن كتبهم، وباباً من أبوابها، لأَخَذَ منا العجبُ مَأْخَذَه ! [..]

 

5- تغلبت روح التعصب المذهبي الشديد، حتى وَصَلَ الأمرُ في ذلك بين أتباع الأئمة إلى المناقشة في “صحة الاقتداء بالمخالِفِ في المذهب” !

 

وأخذت هذه المسألة في كل مذهب مجالاً واسعاً في البحث والتفريع، ووصل الأمرُ أيضاً إلى البحث عن “حكم التزوج من الشافعية”، و”حُكم المناكحة بين أهل السنة والاعتزال” ! [..]

 

وهكذا وصل التعصب المذهبي إلى مثل هذا الحد، وصارت المذاهب بين المسلمين – وبين أبناء الأزهر- أدياناً يتقاتل أهلُها، ويُضَلِّلُ بَعْضُهم بعضاً، وهي لا تَخْرُج عن أنها آراء وأفهام حَذَّرَ أئمتها الأولونَ مِن تقليدها والعملِ بها دون الاطمئنان إليها بمعرفة الحجة والبرهان.

 

6- تغلبت الفكرة القائلة بـ “تحريم تقليد غير المذاهب الأربعة”، فحَجَّرُوا واسعاً، ومَنَعُوا رحمةً [اللهِ]، ولقد ظهرت هذه الفكرة على وجه أوضح منذ عهد قريب، يوم وَضَعَ الأستاذ الشيخ المراغي مشروعَ الزواجِ والطلاق، فقام ثلاثة من علماء الأزهر بعمل مذكرة تُنَاهِضُ هذا المشروعَ، وتَبْنِي مُنَاهَضَتَها على أنه لا يجوز تقليدُ غيرِ المذاهب الأربعة،

 

فكتب المراغي مذكرة قيمة، لها خَطَرُها في التوجيه الفقهي والتشريعي، بَيَّنَ فيها كثيراً مِن مسائل الاجتهاد والتقليد، كما بَيَّنَ آراءَ العلماء في تأثر الفقه بالعرف والعادة.

 

ويجدر بنا في هذا المقام أنْ نَعْلَمَ أنَّ العلماءَ الذين تناولوا هذه المسألة قديماً، واستساغوا أن يحكموا بمنع تقليد غير الأربعة، لم ينظروا إلى خصوصيةٍ في ذات المذاهب الأربعة، وإنما – [كما ذكر المراغي]- جعلوا مناطَ التقليدِ على وجه العموم الثقةَ بالمذهبِ الذي يُقَلَّد، واطمئنانَ النفس إلى صحة النقل عنه، فمَن ثبت عنده رأيٌّ مِن آراء الأئمة أو الصحابة : جاز له تقليدُهُ والعملُ بمقتضاه، لا فرق بين إمام وإمام، ولا بين الأربعة وغيرهم.

 

ولهذا يقول عز الدين بن عبد السلام: “لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة، بل إنْ تحققَ ثبوتُ مذهبٍ عن واحدٍ منهم : جازَ تقليدُهُ، وِفَاقَاً، وإلا فلا” [..].

 

ومن هنا يقول القرافي: “انعقد الإجماع على أنَّ مَن أسلم: فله أنْ يُقَلِّدَ مَن شاءَ مِن العلماء، بغيرِ حَجْرٍ”.

 

هذا هو أصل الفكرة، فانظروا كيف حُرِّفَتْ وجُعِلَ التقليدُ خاصاً بالمذاهب الأربعة، بل جُعِلَ واجباً يجب على المُكَلَّفِ أنْ يَدينَ به ويعتقده، فيقول بعض المؤلفين في منظومته : “وواجبٌ تقليدُ حَبْرٍ مِنْهُمُ” !

 

7- وَرِثَ الأزهرُ أيضاً فكرةَ أنَّ “مَن قلد إماماً من الأئمة الأربعة : فليس له أن يَحِيدَ عنه”، بل يجب عليه أن يلتزمه بدون حجة ولا بحث وراء دليل، ولا يصح أن يقلد غيره ولو في غير ما قلده فيه !

 

ومُذَكِّرَةُ الثلاثةِ – التي أشرنا إليها- قد تأثرت بهذه الفكرة أيضاً، فأوجبت على القاضي أن يحكم بمذهبه، وحَظَرت عليه أن يحكم بغيره، وذلك على الرغم من أن علماء الأصول يقولون في هذه المسألة : “والأصح أنه لا يَلْزَم؛ إذ لا واجبَ إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يُوجِب اللهُ ولا رسولُهُ على أحد من الناس أنْ يتمذهبَ بمذهبِ رجلٍ مِن الأئمة فيقلده في دينه وفي كل ما يأتي ويَذَر دون غيره”.

 

8- وَرِثَ الأزهرُ أيضاً القول بـ “حرمة تتبع رُخَص المذاهب”! [..] مع أنَّ صاحبَ التحرير -[ابن الهُمام]- يقول أيضاً، [بتصرف طفيف جداً]، في هذه المسألة : “ولا يَمْنَعُ منه مانعٌ شرعي؛ إذ للإنسان أنْ يَسْلُكَ الأخفَّ عليه إذا كان له إليه سبيلٌ، ولا أدري ما يمنع هذا من العقل والسمع ؟! ، وكَوْنُ الإنسانِ يَتَّبِعُ ما هو أخف على نفسه مِن قولِ مجتهدٍ مَسُوغٍ له الاجتهادُ : ما عَلِمْتُ مِن الشرع ذَمَّه عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما يخف على أمته”!

 

9- ووَرِثَ الأزهرُ فكرةً كان لها أثر خطير في انحرافه عن سبيل التفكير الصحيح وتقدير الآراء بقيمتها العلمية: هي “خُطَّةُ المُعَادَاةِ لطائفةٍ مِن العلماء: نَضِجَتْ عقولُهُم وأدركوا أسرارَ الشريعة، وخالفوا الناسَ في كثيرٍ مما دَرَجُوا عليه، وتحرروا من الأغلال التي قَيَّدَ المقلدون بها أَنْفُسَهم”، حَكَمَ الأزهرُ عليهم بأحكامٍ جائرةٍ، وشَكَّكَ في تدينهم وإخلاصهم وآرائهم، وشُوِّهُوا في الكتب وعلى ألسنة الدعاة بغير حق، وجُعِلَ ذلك سبيلاً إلى رفض العمل بآرائهم، وعدمِ الاعتداد بأفكارهم، فصُرِفَتْ الأنظارُ عنهم، وصِرْنَا نسمع من أسباب رفض الرأي: هذا رأيُ ابن تيمية، وابن تيمية ضال مضل!، وهذا قولُ ابن القيم، تلميذُهُ! كما يقال: هذا رأي الزمخشري، وهو معتزلي!، أو ابن رشد، وهو فيلسوف!.. إلخ، وكأن هؤلاء ليسوا من أهل العلم ولا من رجال البحث، أو كأن الحق وَقْفٌ على طائفة من الناس لا يعدوها!

 

10- وأخيراً وَرِثَ الأزهرُ في ذلك العهد: القولَ بتحريم الاشتغال بالعلوم العقلية والرياضية، وأخذ يحارب المشتغلين بها جيلاً من الزمن! [..]

 

هذه هي التركة المثقلة التي خلقتها العصور المظلمة، واحتملها الأزهر في طور مرضه الشديد باعتبارها عقائدَ دينيةً، وواجباتٍ يَرَى أنْ يتمسك بها وأنْ يَذُودَ عنها، وأنْ يَرْمِيَ خارجَ محيطه بمَن يُفَكر في التحلل منها.

 

ولقد كانت النتيجة الحتمية لهذا الميراث الثقيل:

 

– أنْ وقفت حركة التفكير العلمي في الأزهر،

 

– وحَرَمَ نَفْسَه لذةَ البحث والنقد،

 

– وانحصرت مظاهر التبريز والنبوغ فيه في القدرة على حل المشاكل اللفظية في المتون والشروح والحواشي – التي لا تعود على العلم بكبير فائدة-.

 

وبهذا انقطعت علاقة الأزهر بالأمة في تفكيره وعلومه وتشريعه،

 

وأصبحت النظرات المتبادلة بينهما كالنظرات المتبادلة بين طائفتين : ضاقت كلٌّ منهما ذَرْعَاً بصاحبتها، وأخذت تتربص بها الأحداث والدوائر.

 

ظل الأزهر كذلك حتى هيأ الله له – على سنة الله سبحانه مِن عدم إخلاء الأمم مِمَّنْ يَعْرِفُ الحقَّ ويدعو إليه- واحداً مِن أبنائه، لا يَنْسَى التاريخُ فَضْلَه، هو الأستاذُ الإمامُ المُصْلِحُ للأزهر الشيخ/ محمد عبده رحمه الله ورضي عنه [..]، فكانت مبادئه وأفكاره بمثابة شعاع انبثق في أفق الأزهر، انتفع به مَن انتفع، وازْوَرَّ عنه مَنْ ازْوَرَّ، ولكنه مع ما قُوبِلَ به مِن محاولاتٍ متعددةٍ لإطفائه : ظلَّ قوياً وَهَّاجَاً، يَجْذِبُ إليه أنظارَ المؤمنين، ويَنْفُذُ إلى بصائر المخلصين [..]، وإنَّ الأزهر لينتفع الآن في كلياته ومعاهده، وفي القضاء الشرعي والإفتاء، والوعظ والإرشاد، بطائفة كبيرة من العلماء (الذين تخرجوا في ظِلالِ هذه النُّظُمِ التي تَسْتَمِدُّ مِن إصلاح الشيخ عبده) لهم أثرٌ واضحٌ في حياة الأمة من جميع نواحيها.

 

[محمود شلتوت – فبراير 1943م]

 

قلتُ (يحيى) :

 

هو – بحمد الله- نَصٌّ من النفائس والنوادر التي كثيراً ما تشرفت وتتشرف بنشرها سلسلة “إضاءات ومراجعات”، وهو غيرُ منشورٍ في أي من كتب شلتوت المطبوعة، وهي محاضرة شهيرة جداً لشلتوت، حينها، وكان لها وَقْعٌ وصَدَىً كبيرَيْن، يَلْحَظُهُ مَن كان له اطلاعٌ على “دوريات” هذه الفترة، مَجَلاتٍ وصُحُفاً، حيث أحالت إليها ونَوَّهَت عنها الكثيرُ والكثيرُ من الأقلام في بَرِّ مصر.

 

وعن هذه المحاضرة ووَقْعِها، حين إلقائها، قال -على سبيل المثال- العالِم الأزهري الجليل/ محمد محمد المدني:

 

أريد أن أصف للقراء كيف أقبل الناس على سماع هذه المحاضرة وكيف استقبلوها عندما سمعوها [..].

 

فأما إقبال الناس على هذه المحاضرة فقد كان رائعاً:

 

– إنه لم يكد عنوانها ينشر على الناس مقترناً باسم صاحبها حتى جعلوا يتساءلون: ماذا عساه يقول في هذا الموضوع، وكيف يذكر حقائقه، ويعرض للناس وقائعه؟ تساءلوا عن ذلك؛ لأن العنوانَ وما عُرف به صاحبُ المحاضرة من حبٍّ للصراحة وجهرٍ بالحق قد أثار في نفوسهم معاني شتى هم بها يشعرون،

 

– ولبوا دعوة الداعي خِفافاً سِراعاً، حتى بلغت عدتهم قريباً من أربعة آلاف، بين علماء وطلاب، واكتظت بهم مدرجات الكلية [كلية الشريعة، حيث ألقى شلتوت محاضرته] وحجراتها وأفنيتها،

 

– واستعين على إسماعهم بمكبرات الصوت التي بُثَّت في نواحيها،

 

– وكان فيهم صفوة من الأزهريين الذين يشغلون المناصب في الإدارة العامة وفي الكليات وفي غيرهما،

 

– وألقى فضيلة الأستاذ الكبير محاضرته، فكان يُقَاطَعُ بالتصفيق الحاد والهتاف المُدَوِّي في أثنائها.

 

ولما انتهى منها:

 

– هنأه مفتي الديار المصرية على ما وفق إليه من وصف حالة الأزهر العلمية وسياسته التوجيهية،

 

– وعانقه وكيل مشيخة الأزهر مُقَبِّلاً إياه بين عينيه على ملأ من الناس أجمعين،

 

– وعلا التصفيق والهتاف لهذا المظهر الرائع،

 

– وأبى الطلاب إلا أن يحملوا فضيلة المحاضر على أعناقهم إلى فناء الكلية فتم لهم ما أرادوا، وكان يوماً في الأزهر عظيماً!

 

[محمد محمد المدني – 24/ 4/ 1943م]

من د. يحيى جاد

طبيب بشري وباحث وكاتب مصري