رانيا مصطفى

كثيرا ما شبهت الأحداث العالمية التي تصنع زلازلها العنيفة تصدعات عميقة، بلعبة عتيقة سحرية، كانت محور «فنتازيا» من تأليف كريس فان ألسبورج، أقحمت هذه اللعبة أبطال الفيلم داخل غابة مرتبطة بإعداداتها، ووحدة تحكمها، ليدركوا مع الوقت أن «جومانجي» ليست مجرد لعبة، بل هي تحدي للبقاء، حيث عليهم أن يكملوا جميع مراحلها ليتمكنوا من العودة إلى عالمهم الطبيعي؛ كذلك هي دورات التاريخ، يجب أن تكتمل، فلا يمكن أن تتوقف في أي مرحلة، ولا يُسمح لها أن ترجع للوراء.

 

يتسبب ابتعاد كثير من المحللين عن استقراء الأحداث السياسية المعاصرة وفق سياقها التاريخي في فهم ضبابي للواقع، فيتوه متابعوهم بين دروب التفسيرات إلى الحد الذي يعتقدون معه أن تاريخ العالم إنما بدأ منذ نهاية الحربين العالميتين، وأن الرجوع بالذاكرة لأبعد من هذا إنما ينبع عن عقلية تآمرية ذات أفق فكري ضيق!

 

لنعرف ما الذي أدى لتحطم  طائرة ثورات الربيع العربي على الممر أثناء عملية الإقلاع، يجدر بنا أن نسمع تسجيلات الصندوق الأسود لما دار داخل قمرة القيادة.

 

وسط أعاصير الملاحم الدامية التي دارت رحاها عبر التاريخ بين طوائف المسيحيين، ثم بينهم وبين المسلمين،  كان اليهود هم الحلقة الأضعف، فبعد انهيار مملكتهم الخرزية وشتاتهم العالمي الثاني،وتركز معظمهم في روسيا،وانتشار البقية في أوروبا وبلاد العرب،وبعد الانشقاق الكنسي الأول، تحولت أعداد منهم إلى المسيحية الأرثوذوكسية البيزنطية الشرقية الأصولية، وصار منهم أعضاء في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية الغربية المعتدلة؛ ثم حدث الانشقاق الكنسي الثاني مع بداية عصر الإصلاح الديني حين انفصلت الكنيسة البروتستانتية عن الكاثوليكية وحلت محلها في معظم دول أوروبا،فتحول إليها أيضا أعداد كبيرة من اليهود وصاروا أعضاء فيها. استقرت في النهاية رعاية الطائفة الكاثوليكية في ألمانيا إلى أن انتزعتها فرنسا، وأفلتت انجلترا من المعارك لترعى بدورها كنيستها الإنجيلية، الوسط بين الكاثوليكية والبروتستانتية، وانتقلت الكنيسة الأرثوذوكسية إلى موسكو بعد فتح المسلمين للقسطنطينية.

 

كان لتغلغل اليهود المتحولين للمسيحية دور مؤثر في الانشقاقات الكنسية؛فقد خططوا لخلق مجتمعات تتقبلهم عن طريق تخفيف تركيز العقيدة المسيحية التي تزدريهم باعتبارهم قتلة المسيح، من الأرثوذكسية إلى الكاثوليكية، ثم إلى البروتستانتية؛حتى ظهرت الحركة التنويرية التي فرغت المسيحية من محتواها، فأصبح المتنورون المسيحيون أقل عنصرية تجاه اليهود، الذين ما لبثوا هم أيضا أن تأثروا بها فتحرروا من عقائدهم وتعاليم دينهم.

 

قرب حكام الشرق والغرب اليهود بغرض الاقتراض وإنعاش الاقتصاد وامتصاص أموال الشعوب لصالحهم، واستغل ذلك اليهود للوصول إلى مستويات نفوذ سياسية تتولى صناعة القرار؛ وحققوا استقرارا في المجتمعات التي وفدوا إليها. تنوعت طبقات المجتمع اليهودي الداخلي، فمنهم العامة من التجار والمرابين؛ ومنهم الطبقة العليا المتمثلة في أقنان الملك الممولين والمملوكين للنظام الملكي، ومنهم يهود البلاط  الذين  كان لهم موقف الزعامة بين يهود البلد الذي يعيشون فيه، وكانوا الأكثر اندماجا في المجتمع، والأكثر تحركا نحو المركز من الناحية الوظيفية والاقتصادية والحضارية،فقاموا بدور الوسيط الفعلي والفكري بين حضارة الأغيار واليهود.

 

أصبحت وظيفة يهود البلاط وراثية وتحولوا إلى أسر مالية أرستقراطية تتصارع فيما بينها على النفوذ والسلطة،كما صاروا طائفة مغلقة يتزاوج أفرادها فيما بينهم ويستبعدون اليهود العاديين؛ ويمكن القول، أن هذه الطبقة هي التي استطاعت أن تحتفظ بتأثيرها الخفي القوي حتى يومنا هذا.

 

في الفترة المبكرة من العصر الحديث،لجأت الدول الأوروبية  لاستعمار مناطق جديدة عبر البحار في الأمريكتين وإفريقيا واستراليا وآسيا، كإجراء مواز لمحاولاتها المستمرة لوقف المد الإسلامي والإجهاز عليه في أوقات ضعفه، وبهدف تطويقه وتكوين إمبراطورية جديدة، ما أدي إلى أن أصبحت المسيحية هي الديانة الأوسع انتشارا في العالم.

 

مع بداية ظهور الرأسمالية،ومع الأخذ في الاعتبار أن التجارة هي النشاط الرئيسي لليهود لكثرة انتقالهم وعدم ارتباطهم بأرض،ظهرت طبقة جديدة من التجار المسيحيين واليهود «البرجوازية»، وكان لها دورها الثوري الحاسم في القضاء على الإقطاع، والوصول للحكم في كثير من دول أوروبا؛ كما نشأت برجوازية صغيرة داخل أوساط  يهود وسط وغرب أوروبا «الأشكيناز»، تنظر لليهود الشرقيين اللاجئين «السفارديم والمزراحيين» كأجلاف غير متحضرين، يشكلون فائضا بشريا ضخما خطراً على مكاسب اندماجهم في مجتمعاتهم ويجب التخلص منه، وهنا ظهر نشاط الطبقة الارستقراطية اليهودية في تكوين حركات سرية، كان أبرزها الحركة الماسونية، لإيجاد حل للمسألة اليهودية.

 

انتشرت الحركة الماسونية، وصار لها محافل عظمى قد تختلف في الرؤى، لكنها تلتقي جميعها في النهاية تحت مظلة واحدة؛ كان أولها وأهمها: المحفل البريطاني الاسكتلندي الذي مثل الرأسمالية، وتزاوج المال بالسلطة، وتناغم البروتستانتية واليهودية؛ فاجتذب إليه الأثرياء والحكام والساسة والعلماء والمفكرين، وبرغم احتضانه للحركة التنويرية إلا أنه كان يشترط انتماء أعضائه لدين،واعترافهم بأنظمة الحكم،يفضل هذا المحفل الوضع المستقر، فبامتلاكه هذه التشكيلة من الأعضاء لم قد يحتاج ثورة؟ وثانيها: كان المحفل الفرنسي الذي أضاف لدستور الماسونية مواد تقبل عضوية النساء والملاحدة، ومال كثير من أعضائه إلى الاتجاه الثوري ضد الحكومات ما تسبب في عدم اعتراف المحفل البريطاني به حيث اعتبره غير ملتزم بمبادئ الماسونية.

 

مع غليان الثورة الفرنسية التي دعمها كثير من الماسون الفرنسيون، ضربت الاشتراكية، والشيوعية أوروبا والشرق بشراسة، فبدأ إعصار الربيع الأوروبي يعصف بالملكيات والإمبراطوريات، بل ويحرر اليهود الذين استعادوا أمجاد إمبراطورية الخرز تحت شعار الشيوعية الأممية في روسيا.

يتبع…