رانيا مصطفى

إن الانشقاق الذي حدث بين محفلي فرنسا وبريطانيا إنما هو قلب الصراع العالمي المعاصر، ففرنسا المحطمة بعد معظم حروبها أطلقت اليهود من قمقمهم وأصبحت جزءً من نظامهم الشيوعي لتشارك وليمة الرأسمالية التي تشابكت أعصابها بقوة مع إمبراطورية بريطانيا التي لا تغيب عنها الشمس.نادت الشيوعية بحق الشعوب في تقرير المصير لتدق مسامير في نعش الامبريالية الجديدة؛كما أطلقت مبدأ الديمقراطية لتتمكن من دس أنفها في شئون حكم الدول التي ستتحرر ظاهريا من الاستعمار الرأسمالي الماسوني.

 

وفي هجمة مرتدة،تبنى الماسون الرأسماليون تحويل الحلم الصهيوني إلى حقيقة بزرع اللغم اليهودي في فلسطين قلب الأمة العربية والإسلامية، والملاصقة لأهم ممر تجاري عالمي (قناة السويس)؛ كان الأمر يحتاج لتفجير هائل يمزق الخرائط العالمية القديمة؛ فخططوا؛

أولا: لتفكيك الإمبراطوريات الثلاث (العثمانية- الروسية- الألمانية) الرافضة للمشروع؛

ثانيا: لإغراق أوروبا وروسيا في الخسائر والديون من خلال حرب عالمية تنتعش فيها تجارة السلاح التي يتحكمون فيها؛

ثالثا: لتقسيم تركة الدولة العثمانية ورسم خريطة جديدة للمنطقة تحمل بذور صراعات وعمالات مستقبلية؛

رابعا: لانفراد بريطانيا بالسيطرة على فلسطين واستبعاد فرنسا؛

خامسا: لإخضاع بريطانيا للتوقيع على وعد بلفور الذي لم تجد منه فكاكا سدادا لديونها، ولتبقى داخل المعادلة العالمية؛

وسادسا: لإجبار يهود العالم على الهجرة لفلسطين عبر سلسلة من المذابح مع غلق أبواب فرارهم لأمريكا.

في قضية فلسطين، يظهر قطبا العالم الحقيقيان المتناحران،

أولا: الاتحاد الرأسمالي البريطاني البروتستانتي الإنجيلي الاشكينازي،

وثانيا: الاتحاد الشيوعي الفرنسي البروتستانتي السفارديمي المزراحي؛ يسعى الطرف الأول للسيطرة الشاملة على القدس، ويسعى الثاني لعرقلة الأول حتى لا ينفرد بالمنطقة الكنز.

 

في خلفية الصراع، استثمر زعماء المعسكرين الجانب الديني المؤثر لشحن الشعوب وليستميلوا الرأي العام العالمي كل إلى جانبه، لتسهيل أو تعسير قبول القرارات السياسية؛فلدعم توطين اليهود بفلسطين تبنت الحركة الصهيونية مبدأ تجهيز الأرض بعودة اليهود تعجيلا لعودة المسيح؛ وآزرتها البروتستانتية الصهيونية من باب تسريع أحداث النهاية فإما أن يهتدي اليهود للمسيحية وإما أن يهلكوا ويتخلص منهم العالم، «وربما من هذا الباب قبلت بريطانيا- التي سعدت الأوساط الدينية فيها باستعادة بيت المقدس- بالتنازل عن بيت المقدس لليهود»؛وعارضت الجهات الرافضة للحركة الهجرة معللة ذلك بأنه ليس من أصل العقيدة وأن المسيح سيأتي أولا ليجمع شتات اليهود.

 

يخشى بعض الكتاب ربط الديني بالسياسي خوفا من الانزلاق العاطفي غير المتعقل؛ وأرى أن الصورة تصبح ناقصة إذا ما استبعدنا هذا الجانب، وخاصة أن الحروب تعتمد على بث الفتن لتفكيك المبادئ والولاءات التي يكون الجانب العقدي على رأسها؛فهو كتيب تشغيل الأمم.

 

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، اشتعلت الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، اللذين سيطرت أحزاب تمثلهما على الوضع السياسي داخل كل دول العالم، وصار لكل منهما داعمين داخل جيش البلد الواحد؛ حرب يقاتل فيها المال الفوضى؛ وتحرق فيها الفوضى الأرض التي يجني منها المال أرباحه، لكن هذا لا يمنع اتحادهما حين يكون الخطر مشتركا.

 

مثال لشرح آلية عمل المعسكرين لفرض السيطرة،يقدم الرأسماليون بهدوء على عملية تفجير دقيقة لأساسات الحكم في الدول المستقرة حتى تنهار بشكل طبيعي تماما،مثلما فعلوا بروسيا والدولة العثمانية مثلا؛ ولكن أثناء انشغالهم بوضع أيديهم على الموارد الاقتصادية للدولة المستهدفة يقفز الشيوعيون على الفريسة مستغلين شعور المواطنين العارم بالغضب، لإطلاق شرارة ثورة تحمل شعارات المساواة والحرية،عن طريق حركات وأشخاص سيرفضون الانخراط في المؤسسات السياسية فيما بعد، تنجح الثورة،ويتطور الصراع بين الوحشين،إلى أن يفوز بالسلطة سياسي موال لأحدهما فيبدأ الآخر في ابتزازه،وفي نفس الوقت يضع حبل المشنقة حول رقبته، وينتظر اللحظة المناسبة ليركل الكرسي من تحت قدميه؛ويستمر النزاع.

 

اعتاد العرب أن يحرقوا العلم الأمريكي والإسرائيلي انتقاما لكرامتهم الجريحة،ومن باب قلة الحيلة؛لكنهم لم يفطنوا يوما لحرق العلم الروسي والفرنسي معهما؛ فهم لم ينتبهوا إلى أن الأصابع التي تشير نحو عدو في الغرب تنتمي لذراع متربص آخر في الشرق؛ وأن تلك الدول ليست إلا شركات حرر عقودها نظامان متصارعان، يفوز برئاسة مجلس إدارتها الطرف الأكثر دهاءً، وربما أوضح مثال على ذلك سباق انتخابات الولايات المتحدة الأمريكية التي يتابعها الكوكب كله اليوم.

 

وفق دراسة الصراع العالمي على هذا النحو،يستطيع القارئ أن يميز ألوان الأحزاب والحركات السياسية المحلية والدولية التي دعمت ثورات الربيع العربي، وتلك التي هاجمتها وانقلبت عليها،مع الأخذ في الاعتبار أن الدولة الواحدة قد يصدر عنها موقفان متضادان بسبب صراع داخلها بين حزبي القوتين العظميين (شيوعية،ورأسمالية)، وفي النهاية، يؤخذ بالطبع بالموقف الرسمي لمن هو في سدة الحكم الذي قد يتنازل أحيانا (في حدود) تحت ضغط الآخر؛ كما يمكن للمتابع أن يتنبأ بسياسات الدول عبر مرجعيات ساستها؛ وأن يلاحظ مَن من حكام العالم يخضع للمعسكر الشرقي بصفاته الدببية الوحشية؛ومن يتبع المعسكر الغربي بطبيعته الأوروبية  الماكرة الباردة.

 

وأخيرا، أستعير عبارة الدكتور عبد الوهاب المسيري: «إنني أطرح مقولاتي لا باعتبارها نهائية, وإنما باعتبارها مقولات قابلة للاختبار وعلى من يريد أن يختبرها فليختبرها على محك الواقع».

 

بعد استعراض أحداث عبرت، نخلص إلى أن التاريخ ليس ماض وانتهى، ولكنه حاضر نعيشه بكل تفاصيله.

 

ترى ماذا ستكون نتيجة رمية النرد التالية؟

أكاد أسمع الطبول.