زوجني ابنتك

بهذه العبارة استفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه مع هذا الرجل من الأنصار

تهلل الرجل واستبشر وأجاب بدون تردد

نِعِمَّ وَكَرَامَةٌ يَا رسول الله، وَنُعْمَ عَيْنِى

 

استطرد رسول الله ? مبينا وموضحا: إِنّى لسْتُ أُريدها لنفسي

هنا سأل الرجل: فَلِمَنْ يا رسول اللَّه؟

أجاب رسول ?: لِجُلَيْبِيبٍ

عندها تردد الرجل

جليبيب

هذا الفقير الدميم

صحيح هو رجل طيب المعشر حسن الخلق قريب لقلب رسول الله ? وهو القائل عنه يوما: ولكنك عند الله لست بكاسد

لكنه ليس الزوج الذي كان يتمناه لابنته

– يا رسول الله أشاور أمها

هكذا كانت الإجابة المبدئية التي أرجأ من خلالها قراره

 

رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك

طبعا كانت إجابة المرأة حين سمعت البشرى كإجابته الأولى: نعم، ونعمة عيني

 

استدرك الأنصاري بسرعة: إنه ليس يخطبها لنفسه، إنما يخطبها لجليبيب

 

– أَجُلَيْبِيبٌ ابْنَهْ؟!

أَجُلَيْبِيبٌ ابْنَهْ؟!

لاَ لَعَمْرُ اللَّهِ لاَ تُزَوَّجُهُ

 

هكذا كان رفض المرأة قطعيا سريعا

وكاد الرجل أن يستجيب لقولها الذي على ما يبدو صادف ميلا في نفسه

فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله ? ليخبره بما قالت الأم؛ استوقفته ابنته وكانت على ما يظهر قد استمعت لما يجري أو علمت نبذة منه

 

– من خطبني إليكم؟

سألت الفتاة ذلك السؤال المحوري الفارق

من صاحب المطلب؟

من الذي ارتضاه؟

من الذي زكاه وقربه لدرجة أن يخطب له بنفسه؟

 

– أتردون على رسول الله ? أمره؟

هكذا ألقت بسؤالها الحاسم الذي لا يملك مؤمن إلا إجابة واحدة صحيحة عند سماعه

ولقد قالتها وقررتها مباشرة بعد السؤال

ادفعوني إليه فإنه لن يضيعني

إن كان رسول الله قد رضيه لكم فارضوه

ثم رتلت بخشوع ما تحفظ من قول ربها: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا }

لقد قبلت الفتاة بالزواج من جليبيب ـ رضي الله عنه ـ رغم فقره ودمامة خلقته، طاعة لرسول الله ?

ولم يكن من الوالدين حين ذكرتهما بهذا الأصل الإيماني إلا أن يتراجعا عن رفضهما

ويستجيبا

ولقد فعلا..

 

” اللَّهُمَّ صُبَّ عَلَيْهَا الْخَيْرَ صَبًّا، وَلَا تَجْعَلْ عَيْشَهَا كَدًّا كَدًّا”

كان هذا دعاء النبي ? لها حين علم بمقالها وقرارها

تزوجت الفتاة جليبيبا ولم يطل زواجهما إذ أدركته الشهادة سريعا وشرفه النبي بشهادة قل من قيلت في حقه

هَذَا مِنّي وَأَنَا مِنْهُ

هَذَا مِنّي وَأَنَا مِنْهُ

هَذَا مِنّي وَأَنَا مِنْهُ

حمله رسول الله ? بنفسه ما له سرير إلا ساعدي رسول الله ثم وضعه في قبره بأبي هو وأمي

 

أما المرأة الصالحة فأدركتها بركة دعوة النبي ? فما كان في الأنصار أيِّم أنفق منها حتى أن الصحابي الجليل أنس بن مالك ـ رضي الله عنه قال في حقها: ” فما رأَيْتُ بالمدينةِ ثيِّبًا أنفَقَ منها (أي كثيرة النفقة والخير والأموال ) وما كادت تنتهي عِدَّتها حتَّى تسابق إليها الرجال يخطبونها ”

موقف تلك الفتاة الصالحة دوما كان يبهرني في تلك القصة التي رواها الإمام أحمد وغيره

إنها نموذج مثالي لخصيصة من أهم الخصائص التي تستطيع أن تفرق بها بين صالح وطالح

بين مستقيم ومنحرف

بين ملتزم وغير ذلك

بل وبين مؤمن صحيح الإيمان ومن تشوب إيمانه الشوائب وتدنسه الأهواء

خصيصة القبول

تلك التي يقابلها على الجانب الآخر خصائص مضادة

 

الحرج من اختيار الشرع

الضيق والعنت الذي يجده البعض عند مخالفة الشرع لأهوائهم

الرفض لحكم من أحكام الإسلام رغم إدراك ثبوته

جحود فكرة الاتباع وطاعة أمر الدين أو بعضه

تصور إمكانية استبدال المحكم الثابت من الشرع بغيره مما يرضي الأهواء وأهلها

 

كل ما سبق أو بعضه = أعراض لخلل عميق من أخطر ما يمكن أن يجده المرء في قلبه

أن يدرك أو يوقن بدليل واضح وقاطع أن هذا الأمر دين أو شرع قُضي بحكمه لكنه لا يجد في قلبه قبولا له أو أن يضيق ذرعا بذلك الوجود ويتحرج من كونه من الدين أصلا

لا أتحدث هنا عن ضعف يوهن الانقياد أو غفلة تقلل الطاعة أو نسيان يعكر صفو الاتباع فهذا طبع البشر

الضعف والزلل والنسيان وقلة العزم

 

لكن عن الأصل أتحدث…

 

عن القبول والتسليم وإن لم أستطع التنفيذ

هذا القبول إن لم يوجد مع وجود القناعة بثبوت الأمر = كارثة إيمانية

نعم… الأمر متصل مباشرة بالإيمان

في تلك الآية التي ذكرتها الفتاة المؤمنة

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ? وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)

[سورة ا?حزاب 36]

 

وكذلك في غيرها كثير

 

(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

[سورة النساء 65]

 

(كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى? لِلْمُؤْمِنِينَ)

[سورة ا?عراف 2]

 

تأمل المشترك بين الآيات الثلاثة التي تتحدث عن قبول الشرع وقضاء الله ورسوله دون رفض أو حرج

 

“لا يؤمنون” “وما كان لمؤمن ولا مؤمنة” “وذكرى للمؤمنين”

إنه لفظ الإيمان بمشتقاته

القضية هاهنا إذاً إيمان وشرط من شروطه

لكن ما الصلة؟

ما علاقة الإيمان بالقبول؟

 

الحق أن العلاقة وطيدة للغاية

علاقة تصديق بربوبية المولى جل وعلا وتسليم بألوهيته وأحقيته وحده بالتشريع والأمر والنهي كما هو وحده من خلق وبرأ وصور وفطر

“أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ”

 

إنها علاقة ثقة ويقين أنه يعلم من خلق وأنه وحده الخبير بما يصلحهم بإطلاق

المؤمن يصدق بذلك ويوقن به

لذلك فهو يقبل شرعه ولا يعتري قلبه الحرج أبدا من شيء قضاه الله وذلك ببساطة لأنه هو سبحانه من قضاه وحكم به

وهو الأحق

وهو الأعلم

وهو الأرحم

أفينازعه العبد في علمه ليتحرج وليكون له قول بعد قوله؟

أم ينازعه في حقه ومقتضى استحقاقه الحصري للعبادة والطاعة المطلقة؟

أم هو يشكك في رحمته ومودته وإرادته الخير بعباده في دنياهم ودينهم وفي أخراهم ومعادهم؟

هذه للأسف مقتضيات الحرج من الشرع بعد ثبوته ووصول العلم به

وتلك هي الصلة بالإيمان الذي يخالف معناه كل تلك المقتضيات تمام المخالفة

مؤمن = مصدق بأحقية المولى في التشريع وكماله ونفعه

وتصديقه يقتضي القبول التام غير المشتمل على أي استثناء أو قيد أو شرط

هذه من أخص خصائص من يستحق أن يطلق عليه لفظ الصلاح أو الاستقامة أو ما رجنا على تسميته بالالتزام

القبول المنافي للرفض والتمرد والحرج

 

ثم يأتي الانقياد والامتثال والطاعة بعد ذلك

 

لكن البداية تكون بوجود ذلك القبول قابعا هنالك بين جنبات الصرح الحاكم على الجوارح كلها

د. محمد علي يوسف

من د. محمد علي يوسف

طبيب وكاتب وخطيب ومحاضر