صفوت بركات

هكذا يقرأ أعداء الإسلام الهجرة جيل بعد جيل وأمة بعد أمة وهو ما لا تعيه الأجيال المعاصرة من أبناء الإسلام،

معاني أول مرة ستسمعها

حين تقرأ عن الهجرة وتسمع أنها فرار بالدين وهروب من الأعداء تكون وقعت في فخ التضليل،

لأن الله سبحانه وتعالى ذكرها كموقعة حربية تقتضى نصر أو هزيمة..

والله سبحانه وتعالى  يخبر عن نتائجها ومآلاتها بخلاف ما تسمع أو سمعت عنها من قبل ..

قال تعالى:

{إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ همَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ معنا}

الهجرة كانت منتهى التهديد

ليس فرارًا بدينه ولا هروبًا ولكنها الحرب والنصر ..

الهجرة كانت منتهى التهديد الجمعي للعالم كافة، وليس لقريش وحسب،

وكانت قرارًا أخطر مما يذهب إليه قائد لثلة من البشر،

وليس هروب ولا حتى اجتهاد في بلوغ النجاة أو السعي إليها،

فلقد اجتهد من قبله النصارى واليهود وفروا بدينهم للأديرة والكنس، فكانت سببًا في ترك المجتمعات للضلال والكفر، ليسودها،

فنزل الإسلام ليصلح ما أفسدوه إذاً لم تكن فرار ولا مجرد نجاة ولكنها كانت حرب وانتصار..

وإعلان لحرب لن تتوقف إلى يوم القيامة أو نزول عيسى بن مريم عليه السلام ليكسر الصليب ويقتل الخنازير.

الهجرة تعالي على أعداء الإسلام

إنما الجهاد شرع لحفظ البيضة «أي الأرض أو الوطن والأهل من زوجة وأبناء وعرضهم وأموالهم بعد الدين»،

والهجرة كانت تعالي على ذلك كله والتضحية به «أي الجهاد» من أجل الدين والدين فقط،

لهذا كان إعلان العداوة مع الكون كله قرارًا أخطر من الجهاد والقتال،

لأنه لم يبقى لعدوه ما يفاوض عليه من أهل وأرض أي وطن أو مال أو عرض.

الهجرة كانت أكبر معركة مما تبعها من معارك وغزوات، لأنها معركة لا غنائم لها ولا فيها، ولهذا قال تعالى:

{إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ معنا}

ولادة الأمم ظرف تاريخي لا ينظر إليه من منظور فقهي بحت..

ولكن من منظور السياق العام وأوزان الأمم وما يحكم اللحظة ويؤثر فيها سلبا وإيجابا.

البعض يقف عند السياق اللغوي عند تفسيره للفظ، سواء كان أمراً أو نهياً أو إباحة أو إذن،

 ويلزم المفسر بالسياق من سباق وللحاق ويتجاهل الظرف التاريخي عند الحوادث الكبرى.

ومنها «الهجرة النبوية» على صاحبها وصحبه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم..

ويتجاهل أن العالم كان بين قوتين مهيمنتين؛ الفرس والروم؛

ويتقاسمان قبائل الجزيرة العربية من حيث الولاء والحراسة حتى أن كسرى وقيصر استدعيا من يأتيهم بخبر محمد، عليه الصلاة والسلام،

بل طمع أحدهم بأن يجلب له ليمثل بين يديه عنوة، لو أبى الذهاب،

والهجرة إليه وهو ما جعل الهجرة ليست إلا عملاً عدائيا للجميع شرقا وغربا،

وهو أخطر من عداوة أهل الجزيرة والقبائل، ومن قلبهم قريش، وغيرها من القبائل، ومن نصارى ويهود حين ذاك وإلى يوم القيامة.

الهجرة إعلان حرب

إن ما نزل من القرآن قبل الهجرة لم يكن سرًا، بل كان يتلي آناء الليل وأطراف النهار ويتداول خبره حتى بلغ كسرا وقيصر،

وفى البيع والأسواق والنوادي يهدم الشك في نفوس وقلوب وعقول العالم كله بلا استثناء بأن القرآن نزل ليصيغ الكون بحكمه، ويصبغه بصبغته،

 ويسلب كل الطغاة مكانتهم ويحطم كل الأصنام في القلوب لهذا كانت الهجرة إعلان حرب ونصر وليست فرار وهروب وسعى للنجاة.

إن انتشار اليهود بالجزيرة العربية والشام وهم أرباب الدعاية والإعلان وهو ما كان من وسائلهم الخادمة لمهنهم وحرفهم من الربا وصناعة السلاح وغيره..

وانتظارهم لنبي يبعث منهم فيدين لهم به العالم والذي لم تكن اليهودية إلا خدم وعبيد أي رقيق عند القوتين العالميتين آنذاك..

والتي بالطبع كانتا متحفزتين لتهديد اليهود، وفى حالة عداء للنبي المنتظر، قبل بعثته،

وربما قبل ميلاده وهو مما جعل الهجرة النبوية من أكبر المعارك وأعظم الانتصارات، وقال تعالى عنهم:

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن ينَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مّهِينٌ}.

ما لا يقال علي المنابر أن الهجرة تنفي عن الإسلام قبول التبعية، ولا يصلح أن يقام وهو تابع، وغير أن يهيمن ويكون الرأس لا محل له أو أن يكون ذل.

ولهذا؛ لا تكمن أسرار النصر في هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام في رؤية وتفسير أتباعه من المؤمنين لها مهما بلغ علمهم،

ولكن في رؤية طواغيت عصره لها فدائما الحدث التاريخي أقرب الحق فيه عند خصومه..

والتحدي الذي مثله لهم بالرغم من احتياطهم له قبل وقوعه ولخبره الذي سبقه في كتبهم..

ولهذا عند وقوع أي شيء في الكون ابحث عن خصمه تجد الحق و يكفى أن تعلم أن يقينهم ذهاب أمرهم وانهيار الإمبراطوريات واحدة تلو الأخرى.

من صفوت بركات

أستاذ علوم سياسية واستشرافية