وفي ختام مؤتمر المصالحة للإتحاد العالمي لعلماء المسلمين قبل أمس تم انتخاب رئيس جديد للإتحاد وهو الدكتور أحمد الريسوني خلفاً للدكتور القرضاوي، ولهذا الحدث عدة تداعيات حيوية أرى المشاركة في إذاعتها للقراء الأعزاء الذين أرى منحنى الحضور الفكري الواعي قد علا عندهم بشكل كبير في العامين الأخيرين خاصة.. وفوق أن الرجل مغربي مما يعكس تحرر هذه الهيئة من العنصريات السخيفة خاصة الوصاية الخليجية البترودولارية، وأن هذه الهيئة التي عانت كثيرا من ركل أقدام الأنظمة العميلة قد باتت أملا مضيئا لكل مسلمي الأرض، ولذالك سعدت كثيرا أن يكون لاجتماعاتهم وجهات محددة مثل وجهة المصالحة والتي استشرفت من استماعي للكلمات أنها مصالحة الجميع مع الجميع على كل الأصعدة وعلى مختلف المستويات.

 

وعند تحديد الهدف من المقال وإعلان نيته في قلبي ونقله لقلوبكم الندية فأنا في حالة من الفرح والاستبشار متميزة جدا رغم مواقد الأحزان المشتعلة في كل أنحاء أمتنا، وسر حالة الفرح هذه أن مولوداً جديداً ورائعاً قد شبّ عن الطوق في أمتنا اليوم سيجعلها الأكثر وعياً وثراءً وهي تتأهل وتتجهز في العشر سنوات الأخيرة بحراك دراماتيكي حاد وسريع لاعتلاء منصة التوجيه الحضاري لكل الأرض ربما فيما لا يقل عن الخمس سنوات القادمة، وهذا المولود بدأ يتبلور في بوتقته العلمية بشكل محدد من مطلع الثمانيات تقريبا، وما دريت أنا عنه شيئا إلا بعدما ضقت ذرعاً بالنظرات بالغة الضيق والمحدودية لفقهاء البترودولار، وكان صعبا حينها أن أعلن تبرمي فقلد كدت أوشك أنهم قد أعلنوا وصايتهم حتى على طرائق التفكير لأمتنا المسكينة، وكانت تخرج في هذه الآونة مجلة الأمة من الدوحة على استحياء وصاحبتها بعد قليل وقت سلسلة كتاب الأمة حيث تألق الفذ الرائع (عمر عبيد حسنة) في تقديم رجالات فقه المقاصد كبديل حكيم وعاقل متسع الأفق ورحب الصدر، وبدأت إلهامات الشيخ النادر الذكاء محمد الغزالي الذي يفرّق الناس بينه وبين أبي حامد الغزالي بقولهم عن القديم الإمام وعن معاصرنا الشيخ، ولو أنصف القوم بعدما يطالعون الأعمال العلمية لكليهما لوجدوا أن المستحق للإمامة بحق هو غزالي قرننا التاسع عشر، فليس أقل في المقارنة أن القديم رحمه الله انساح مع المجوّزين ولاية المتغلب، بينما كان صاحبنا دوما ثائرا في وجه كل طاغية فضلا عن ثورته على كل متنطع.

 

فقه المقاصد إذن هو القادم الجديد بقوة، إنه صبغة عصرنا الذي عصر كل العصور، إنه تاج المنظومات الفقهية، إنه بوتقة انصهار فقه الواقع مع فقه الحركة مع فقه التمكين مع فقه الأولى، إنه تقديم للفريق الذي صلى العصر في موعده قبل الوصول إلى بني قريظة مستشرفا لهدف النص غير صانع من حرفية النص مشنقة قاتلة، أو حجرا مانعاً، ولربما وافق النبي الفريقين لأن التقيّد بحرفية النص كان مطلوباً أحياناً فيما مضى من تاريخ وأحداث الأمة، أما القادم المعقد الذي حتماً سيلزمنا في أحايين كثيرة من الاعتماد على الكليات التشريعية وتحكيمها في فهم النصوص الجزئية، ولذالك سنقوم برد المتشابهات إلى المحكمات، ورد الجزئيات إلى الكليات ليستقيم لنا الفهم الذي أحرزه سليمان أكثر من داوود رغم أن الأول كان ممثلا لجيل الخلف وأبوه ممثلا لجيل السلف.. فالمهم ليس توقير الحق بحسب ناطقه وقٍدمه وإنما بحسب فهمه واستشراف غاياته.. وبذالك سيسهم فقه المقاصد في إعادة تشكيل العقل المسلم بحسب منصة التوجيه الحضاري العالمي التي تنتظرنا في لهفة وشوق لكي يعرف العالم ربه على نحو فريد جديد.

 

وإذا كان الإمام القرضاوي قد ولج معترك الفكر المقاصدي بشكل عملي تطبيقي فإن رسالة الماجستير للدكتور الريسوني كانت بمثابة التأطير التقعيدي لهذا الفقه، وكما يقول العلامة الحاذق د / طه جابر علواني وهو يقدم لنا د/ الريسوني: إن الريسوني قد نخل كتابي (الموافقات والإعتصام / للإمام الشاطبي رحمه الله ) وبحسب منهج الشاطبي وهو منهج الاستقراء الذي كان ديدنه لإدراك بغيته.

 

ها قد حل الدور عليك يا أيها الفقير وقد كتبت في كتابك ( السلفية المعاصرة في ميزان الربيع العربي ) قبل سبع سنوات أن أجهزة التدفق المعلوماتي التي هي السمة الأبرز في عصرنا ستتيح لنا ما لم يتح للسابقين أن ننتخب المالكين لأدوات الاجتهاد من الأذكياء المنتمين بقوة إلى عصرنا وواقعنا وليسوا مغيبين مهمشين عنه، ليلتقي هؤلاء في قاعة واحدة تستغرقهم شهرا ليخرجوا لنا في نهايته بثمرة ( قولا واحدا ) في كل المسائل الخلافية، فإذا قالوا مثلا أن النقاب فرض ستنتقب نساء الأمة عن بكرة أبيها، فإذا قالوا بعدم وجوبه أو فرضيته امتنع أي حسان أو حويني من الحض عليه ولو حضوا لسُجنوا، وهكذا ستأتلف الأمة وتتوحد وتعتصم بحبل الله جميعا.. وسننسى ساعتها مقولة إن اختلاف الأمة رحمة فلقد عايشنا فعلا أن اختلافها نقمة لعينة، لا ردنا الله إلى أيام التمذهب ولا العزف السلفنجي المنفرد..

قوموا إلى مقاصدييكم يرحمكم الله.