ينبغي أن أعترف أولاً أني لم أكن أتوقّع أن تأخذ هذه الأزمة كل هذا الوقت، وربما كان هذا حال كثير من المهتمين والمتابعين، رغم أن منطقتنا هذه قد عوّدتنا على الأزمات التي تبدأ لتكبر، ثم تتكاثر دون حدّ أو حل، لكن ربما كان تفاؤلنا لما نعرفه عن مستوى العلاقة بين الشعبين السعودي والقطري، بما لا يمكن أن يسمح أبداً بمثل هذه القطيعة.

حقيقة أنا لا أعلم مجتمعاً أقرب إلى ثقافة المجتمع السعودي من المجتمع القطري، ويكفي هذا التوافق العقدي والفقهي الذي لا مثيل له، فكلاهما يستند في الفقه إلى مذهب أحمد بن حنبل، وفي العقيدة إلى مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأعلام المذهب السلفي المعاصرين، كالشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين -رحمهم الله- ومعلوم أن أكبر مسجد جامع في قطر يحمل اسم «الإمام محمد بن عبد الوهاب»، هذا المسجد الذي استضاف منذ تأسيسه عدداً كبيراً من الخطباء والقرّاء السعوديين، والذين كانوا يحظون باهتمام استثنائي واضح على المستويين الرسمي والشعبي، وكلية الشريعة التي تمثل السقف الأعلى للتعليم الشرعي في قطر كانت تستضيف عدداً من الأساتذة السعوديين في ندواتها وفي قاعات تدريسها أيضاً، أما على مستوى العلاقات الاجتماعية والقبلية، فالموضوع أظهر من أن تضرب له الأمثلة.

أليس من حقنا هنا أن نستغرب إلى حدّ الصدمة والدهشة، ونسأل كيف تمكنت أزمة سياسية طارئة أن تعصف بكل تلك العلاقات في عشيّة واحدة؟ كيف يمكن في ليلة واحدة أن تنقلب الأحداث لتغطّي على كل تلك الأواصر؟ فيمنع الأخ من زيارة أخيه، وتمنع الأخت من زيارة أختها، وهناك حالات لا أحب أن أذكرها، ولولا أني وقفت عليها بنفسي لما صدّقتها، أما أن ترى الناس يشاهدون الكعبة من على شاشات التلفاز، فترى منهم من يحاول أن يحبس دمعته، فأقسم بالله أن هذا مشهد متكرر بكل ما فيه من قسوة على القلوب، خاصة في مثل هذه الأيام أيام رمضان.

لمصلحة من يتم التغافل عن كل هذه الاعتبارات؟ وما الضرورات التي أباحت كل هذه المحظورات؟

أنا لا أتحدث عن الخلافات السياسية، لأني أفترض في نفسي الجهل بحقيقة الخلاف وأولياته، ولا أريد أن أكون قاضياً في مسألة تفاجأت أنا بها كما تفاجأ غيري، وصدمتني كما صدمت غيري، وجرحتني كما جرحت غيري، خاصة نحن الذين كنّا نعوّل على خيمتنا الأخيرة بعد ضياع عواصمنا وحواضرنا، والله لقد كان أصدقائي من كل تلك البلاد المنكوبة من الفلوجة إلى حلب يتصلون مذهولين ومصدومين لا يريدون أبداً أن يصدّقوا نشرات الأخبار.

إنما أتحدث عن الدين والأخلاق والأرحام، أتحدّث عن المستقبل، أتحدّث عن الأجيال القادمة.

والله لقد كان بإمكاني أن أميّز بين ابن البصرة وبين ابن بغداد أو الموصل، لكني لا أستطيع أن أميّز بين ابن البصرة وبين ابن الكويت، فانظروا ماذا حصل؟ وإلى اليوم بعد أن وقعنا جميعاً في الفخ، فالله الله في أنفسكم وأولادكم وأحفادكم، لا تقحموهم في دهاليز السياسة، ولا تهدموا في ساعة -ولو كانت ساعة غضب- ما بناه أجدادكم على مرّ الحقب.

من د. محمد عياش الكبيسي

مفكر وداعية اسلامي، دكتوراه في الفقه الاسلامي