الخط المقصود والمحدد في المرحلة المكية، هو خط التربية وبناء العقيدة، ونقل المسلم من حالة الولاء في المجتمع الجاهلي إلى الولاء للعقيدة الإسلامية …..

◆◆◆

1- الأنموذج الأول: النوفل بن الحارث بن عبد المطلب(5) (مفاصلة مع الجاهلية):

إليكم إليكم.. أنني لستُ منكمُ ::: تبرأتُ من دينِ الشيوخِ الأكابرِ
لعمُركِ ما ديني بشيء أبيعهُ ::: وما أنا إذْ  أَسلمت يوماً بكافرِ
شهدت على أَن النبي محمداً ::: أتى بالهدى من ربهِ والبصائرِ
وأَنَّ رسولَ اللهِ يدعو إلى التُقى ::: وأَنَّ رسولَ اللهِ ليس بشاعرِ
على ذلك أحيا ثم أُبعث (موقنا)  ::: وأَثوي عليهِ ميتاً في المقابرِ

ومن خلال القراءة التحليلية لهذا النص تلمح الخط المقصود والمحدد للمرحلة المكية، وهو خط التربية وبناء العقيدة، ونقل المسلم من حالة الولاء السائدة في المجتمع الجاهلي إلى الولاء للعقيدة الإسلامية، ويكشف هذا النص مقدار التفاعل القائم بين المسلم ودينه وانسلاخه من عقائد الجاهلية والبراءة منها والمفاصلة الواضحة مع عقيدة الآباء، انه يرميها وراء ظهره كما يرمي الثوب البالي دون أسف عليها، ونرى من خلال النص بعض ملامح المعركة الإعلامية الدائرة بين قريش والقرآن الكريم، واتهامهم للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر (وان رسول الله ليس بشاعر) ثم يسجل الشاعر موقفه بمفاصلة واضحة تعبر عن تركه وانفصاله ومواجهته لعقائد الجاهلية، واعتناقه لعقيدة التوحيد التي يثوي عليها ميتاً في قبره، ثواء المطمئن الواثق بصدق عقيدته ولقاء ربه، وبأسلوب يجمع بين ميراث البيان العربي وبلاغة القرآن الكريم ويستفيد منه في تقديم موقفه وحالته التعبيرية.

2 – الأنموذج الثاني: عمار بن ياسر (معاناة وثبات ومقاومة)

 جَزَى اللهُ خيراً عن بلالٍ وصحبهِ ::: عتيقاً، وأَخزى فاكِهاً وأبا جَهْلِ
عشية هما في بلال بَسَوءةٍ ::: ولم يَحْذَرا ما يحذرُ المرءُ ذو العقلِ

بتوحيدِ ربَّ الأَنام وقوله:

شهدت بأن الله ربي على مَهْلِ

فإن يقتلوني….يقتلوني فلم أكُنْ

لأشركَ بالرحمنِ من خيفةِ القتل ِ

وهذا النص للصحابي المعروف بصبره، والذي لاقى صنوفاً من العذاب هو ووالده وأمه سمية، وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول لهم (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) نعم هو الصحابي المجاهد عمار بن ياسر ونلمح من خلال هذه القصيدة اختلاط المحور التربوي مع المعاناة والاضطهاد، فمن اجل عقيدة التوحيد يتحمل أمثال عمار وبلال وغيرهم العذاب؛ لضعف ناديهم في قريش، ولكن القصيدة تعكس لنا ثمار العقيدة في النفوس والواقع في أول بيت من أبياتها، إنها الأخوة في الله التي جمعت القلوب على العقيدة، بلال وعمار يقدمون أنفسهم قربانا لله، وأبو بكر (عتيق) يقدم ما له ليفك الرقاب من قيد العبودية، وهنا نلاحظ انطلاق لسان عمار بالدعاء لأبي بكر بالخير والجزاء من الله سبحانه وتعالى والخزي للفاكه بن المغيرة وأبي جهل وما هو ذنب بلال حين يعذب، عند هؤلاء السفهاء، لقد نبذ بلال منهج الجاهلية، واعتنق الإسلام، وانحاز لدين الحق، وثبت عليه، وتحدى الجلادين: (أَحدٌ..أَحدٌ)، (والله لو وجدت كلمة نغيضكم اكثر منها لقلتها). ونجد عماراً يؤكد على قضية الثبات ويقاوم الضعف ويرتفع على الألم طلبا لما عند الله، لقد أتت العقيدة الإسلامية أُكلها وثمارها من خلال معادن هؤلاء الصابرين، الذين صمدوا في وجه الفتنة والشدة، فكان شعرهم صورة صادقة للعقيدة التي استقرت وحطت رحالها في قلوبهم.

3 – الأنموذج الثالث: عبد الله بن الحارث السهمي (اضطهاد وتشريد)

يا راكباً بَلَّغنْ عنيُ مغَلْغَلَةً ::: مَنْ كانَ يَرْجو بَلاغ اللَّهِ والدين
كلَّ امريءٍ من عبادِ الله مُضْطَهدٍ ::: بِبَطْن مَكَّةَ مَقْهورٍ ومَفتْونِ
أَنَّا وَجَدْنا بلادَ الله واسعةً ::: تُنْجي من الذُّل والمخْزَاةِ والهُونِ
إِنَّا تَبِعنا رسولَ الله واطَّرَحُوا ::: قولَ النبي وغالوْا في الموازينِ
فَاجعل عذابَك في القوم الذين بَغَوْا ::: وعَائِذٌ بك أَنْ يَغْلوُا فيطغُوني

وهذا النص لصحابي جليل سطت سياط الجلادين على جلده فتعذب صنوف العذاب؛ مما اضطره للهجرة إلى الحبشة مرتين، ونلاحظ أن نصه من اقدم النصوص المروية عن المرحلة المكية. وهو نص نادر شاهد على حالة القهر والاضطهاد والمحاصرة، حيث يعتبر الشاعر الهجرة منجاة من العذاب والهوان وانتظاراً للفرج، وحيث إن الهجرة أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم للضعفاء الذين لم يجدوا لهم سنداً يحميهم أو عشيرة يهابون بها، فالهرب بالعقيدة وسلامة العقيدة هو هدف المرحلة، وحيث إن الهجرة حفظ للطاقات الدعوية، التي لا يمكن تشغيلها في الواقع المكي، والتي يمكن أن تضيع هدراً.

ولا يظن ظان من دعاة فلسفة التراب (الوطنية) أن هؤلاء المهاجرين يمارسون السلبية لأنهم يفرغون طاقات الدعوة في الوطن (مكة) ويهربون بجلودهم؛ لأن العقيدة الإسلامية والوطن والهجرة معادلة لها فهم آخر في الإسلام.

إن تحرير الفكر والقلب من عبودية البشر لبعضهم وتعبيد الناس لله وحده، هو الذي يوجد الشعور بالحرية والمساواة بين بني البشر، وإذا وصل الناس إلى هذه المرحلة، عندها تمتد أيديهم للواقع المحيط وتعيد صياغته، بعد أن تحررت قلوبهم من الخوف، انه يعكس روح المقاومة والصبر وخروج المشركين على موازين الحق، ويدعو الله أنْ يثبتَه وأَنْ يحميه من طغيانهم، وينزل بهم العذاب.

4 – الأنموذج الرابع: العباس بن مرداس السلمي (إعلان إسلام وتحطيم صنم)

لــعـمـركَ إِنَّــــي يـــومَ أجــعـلُ جــاهـلاً    …    “ضــمــار” لِــــرَبِّ الـعـالـمـين مــشـاركـا
وتَـركي رسولَ الله والأَوسَ حولَهُ    …    أولـــئــك أَنـــصــارٌ لـــــه مــــا أؤلــئـكَـا ؟
كتارك سهل الأَرضِ والحَزْن يبتغي    …    لِـيَسْلُك فـي دَعْـثِ الأمور المسالكَا
فــآمــنــت بالله الــــــذي أنــــــا عَـــبْـــدُه    …    وخـالفتُ من أَمسى يُريُد المهالِكَا
ووجـهتُ وجـهي نـحو مـكةَ قـاصداً    …    أبـــايـــع نـــبــيَّ الأكــرمــيـنَ الــمـبـارَكَـا

وهذه تجربة أخرى للصحابي الجليل العباس بن مرداس، يعبر فيها عن فرحته لاكتشاف الهدى، ثم تحطيمه للصنم الذي كان يعكف عليه (ضُمار) وانكشاف الحق لبصيرته، فقد سبق التغيير إلى فكره وقلبه أولاً يوم اكتشف حقيقة الوثنية وانحرافها، وكان اكتشاف الحقيقة تحطيماً لعقيدة الوثنية في تصوره وقلبه تلتها عملية تحطيم الصنم، وعندها سمح لفكره وقلبه بنور التوحيد فخرج من الظلمات والضلال، وهنا يلوم الشاعر نفسه على تأخره عن بيعة الرسول -صلى الله عليه وسلم – يوم سبقته الأوس في بيعة العقبة، ويرسم الشاعر خطين فالسالك للإسلام يسير في خط سهل مستقيم مأمون العواقب، والسالك للضلال يقطع السهول والجبال والوديان اعتباطاً، يتخبط في ضلاله ويهيم على وجه، ثم يخلع ثوب الجاهلية، لأنه مهلكة ويلبس ثوب العبودية لله (فآمنت بالله الذي أَنا عبده ) ويندفع نحو مكة؛ ليهدم بنيان الجاهلية بانسحابه من ذلك البنيان، وينضم إلى بنيان الإسلام فيضيف نفسه لبنة جديدة في علوه وشموخه.

5- الأنموذج الخامس حمزة بن عبد المطلب: (إعلان إسلام واستعداد للذود عنه)

حَمِدتُ اللُّهَ حينَ هَدَى فؤادي    …    إلـى الإسـلام والـدينِ الـحنيفِ
لدينٍ  جـاءَ من ربٍ عزيــزٍ    …    خـبــيـر بـالـعـبـادِ بــهــم لــطـيـفِ
إذا تُـلِـيَـتْ رسـائـلــهُ عـلـيـنـا    …    تـحدر دَمْـعُ ذي الـلُّب الـحَصيفِ
وأَحمدُ (مصطفىً فيناً) مطاعٌ    …    فــلا تَـغْـشَوْهُ بـالـقول الـعَنِيفِ
فَـلاَ واللّهِ نُــسـلِـمـه لِـــقــومٍ    …    ولـمَّا نَـقْض ِ فـيهم بالسيوفِ
وَنَــتْــرُك منُهـمُ قَــتْـلـى بـقَـاعٍ    …    عـليها الـطيرُ كـالوَرْد العُكُوفِ

ومن خلال نص حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه – نلمح الفروق الفردية لطاقات الدعوة، كل واحد من الصحابة يمثل نموذجاً للتحرك بالدعوة حسب قدرته وما تيسر له من إمكانيات، وهنا نلمح نموذجاً مختلفاً يعلن إسلامه على ملأ من الناس متحدياً لكفار مكة يحمد الله على الهداية، ويعطينا قيمة هذه العقيدة في قلبه، فآيات الله لا يسمعها ذو لب إلا تحدر دمعه مما عرف من الحق المبين، أنه تفاعل القلوب مع العقيدة التي علمتهم توحيد الله سبحانه وتعالى، ومحمد الرسول الأمين المبلغ، لا يُغشى بالقول العنيف، كما فعل سفهاء مكة، ولا بالحرب الإعلامية الكاذبة، لو كانوا يعقلون، ولو عقلوا لسجدوا لله شكراً، وما دام الأَمر قائماً على منطق الغلبة، فلا ضير على حمزة (أسد الله) أن يعلن لمن يحمون باطلهم أنه أَولى منهم بالدفاع عن حقه، وحقائق السيرة واضحة في استفادة المسلمين من الطاقات القادرة على الحركة في بيئة مكة وظروفها أمثال حمزة وعمر رضي الله عنهما.

6- السمات المشتركة بين هذه النصوص:

1- تدور هذه النصوص من ناحية المضامين والأفكار والمشاعر حول قضية العقيدة الإسلامية والإيمان بها والثبات على معانيها، ومقاومة ظلم المشركين والتحدي لهم في حالة من الرفض والمفاصلة، تختلف باختلاف القدرات ولكنها موجودة لدى الجميع.

2- ونلمح الشعرية غير الموجه والقائمة على الاجتهاد الفردي في التعبير ضمن معطيات العقيدة ومقاييس الفن الشعري عند العرب.

3- أما من الناحية الفنية واللغوية، فتمتاز لغة هذه المقطوعات بالسهولة واليسر والصور الفنية الشائعة، وقلة الأبيات لعدة عوامل منها:

أ – تأثرهم ببلاغة القرآن الكريم ومحور العقيدة وهو أساس المرحلة.

ب – ليونة أهل الحواضر وميلهم إلى الفصاحة السهلة التي تختلف عن لغة البادية التي كانت تعنى بالسمو الفني والغريب وتحكيك الشعر.

جـ- ربما تأثرت لغة هؤلاء الشعراء، بالتجربة التي يعايشها هؤلاء المعذبين ورغبتهم في التعبير عن المعاناة والإحساس؛ لأنه ليس لديهم الوقت للبحث عن الترف الفني الذي يبحث عنه المستقرون.

من عباس المناصرة

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية