فاتن فاروق عبد المنعم .. مميزة

 

استغل المصريون المعركة التي تدور بين جيش كليبر وجيش الصدر الأعظم في شرق الدلتا والتي مني فيها الجيش العثماني بالهزيمة مما أدى إلى تراجعه إلى سوريا، قامت ثورة ثانية في مصر على عساكر فرنسا أو كما أسماها لورانس انتفاضة تفوق الانتفاضة الأولى، قاد هذا الحراك نقيب الأشراف الأسبق عمر مكرم وأحمد المحروقي شيخ التجار، ينضم إليهم إبراهيم بك من المماليك ونصوح باشا من المسئولين العثمانيين وهؤلاء هما من كانا يعطون الأمر بقتل المسيحيين الذين تعاونوا مع عساكر نابليون ويرجونهم بألا يغادروا مصر وهذه الرواية على عكس رواية نقولا الترك الذي قال  بأنهما من كانا يهدئان الثائرين طبقا للمبدأ القائم بأن جميع رعايا السلطان في حمايته، وانضم للقتال مع المسيحيين الأرمن من الجنود في الجيش العثماني لمحاربة العامة من المسلمين.

 

المعلم يعقوب:

 

كون جيشا من ألفين جندي من النصارى ونجح في صد الهجمات عن الحي الذي يقطن به أغلبهم، وعينه كليبر «أغا الأمة القبطية» وعين له حرس شخصي مكون من ثلاثين جندي فرنسي، أما أعيان النصارى فقد لجأوا إلى الضباط العثمانيين يحتمون بهم.

 

وكما الانتفاضة الأولى فقد لوحظت أعمال شهامة من المسلمين الذين سعوا لإنقاذ المسيحيين من المذبحة مما جعل كليبر يشير في تقريره المرفوع إلى إدارة بلاده لأن يقول:

«خلال هذا العصيان، تسببت أشكال الكره بين الأفراد في عدد من أعمال الاغتيال، كما لوحظت أيضا أعمال سخاء ووفاء، وهذا الدين نفسه الذي يبدو أنه يدفع العدد الأكبر إلى الانتقام، إنما يلهم آخرين العزم على التصدي للمذابح، بما يعرض أرواحهم للخطر»

 

قسمت أحياء القاهرة ليرأسها أفراد موالين لإبراهيم بك، وقاموا بسبك مدافع جديدة وسبك الأسلحة بعد أن جلب مراد بك صناع أسلحة يونانيين مما جعلهم يصدون قنابل الفرنسيين ساخنة على من يطلقونها، وبذلك فقد اتحد سكان القاهرة مع المماليك والعثمانيين لرد الاحتلال الفرنسي، وقد أدهش الفرنسيين هذا العمل المنظم والذي لم يتوقعونه.

 

أخفى القادة العثمانيين الخبر عن سكان القاهرة بهزيمتهم أمام عساكر فرنسا ويجري البحث عن المتعاونين مع الفرنسيين ويجري إعدامهم، أما الشيخ البكري فقد تعرض للسب والإذلال، وتعاون التجار لسد حاجة السكان من المؤون ولكن يحاصر عساكر نابليون الأحياء مما عرضهم للمجاعة، تنسحب عساكر فرنسا إلى مقر القيادة العامة بالأزبكية والذي دمرته المعارك وتمكنوا من السيطرة على القلعة ومختلف الحصون والتي منها يقصفون المدينة الثائرة، ويقوم الجانبان بالتصعيد حتى فشل عساكر كليبر في ردع الثائرين الذي تصدوا بمقاومة شرسة، وهنا أدرك كليبر خطورة حرب الشوارع على عساكره وهو من يسعى لخوض حرب حصار وتطويق شامل للمدينة مستغلا حالة الانقسام التي يعانيها خصومه والتي منيت بها مصر آخذا في الاعتبار أنه في مواجهة جيش مكون من آلاف مؤلفة من العثمانيين والمماليك والمصريين فيبدأ في المساومة لتأمين عساكره في الخروج من مصر فيبدي المشايخ الرئيسيون استعدادهم لتأمين خروجهم من مصر.

 

حقارة معهودة:

 

دأب المحتل في كل زمان «فرق تسود»، بعد استقطاب النصارى في مواجهة المسلمين عاد للإنفراد بكل فئة على حدة.

 

فتم تسوية الأمر مع المماليك ومنحهم حكم مصر العليا على أن يدفعوا الميري (الجزية) لكليبر وعساكره، ثم قام بالاتصال بالقادة العثمانيين بالقاهرة والذين أدركوا بوجوب التفاوض بعد الهزيمة التي مني بها الجيش العثماني شرق الدلتا فيعرض عليهم كليبر الخروج الآمن إلى سوريا فلما علم المصريون ثاروا على مشايخهم وقادة المدن الذين هددهم المصريون بتقطيعهم إربا ولا حديث متداول غير ذلك، وقامت عساكر كليبر بكبح المقاومة في دمياط وطنطا والمحلة وإعادة احتلال هذه المدن وإلزامهم بدفع تكلفة هذه الحرب، وهنا بدأ يشعر كليبر بقوته مرة أخرى فلم يعد سوى القاهرة لإحكام السيطرة عليها وهو من ينتظر الإمدادات ليعيد إحكام السيطرة على المدينة.

 

كتب كليبر مخاطبا جيشه ليقول:

«أيها الجنود إنكم ستهاجمون بعض أحياء مدينة القاهرة، وإذا ما أقدمتم على النهب ستكون نهايتكم، إن كل بيت سيصبح قبرا لكم، إن الغنيمة لن تفوتكم البتة، إنني أعدكم بها إلا أنه قبل ذلك لابد من تدمير أعدائنا»

 

يدخل عساكر كليبر مرة أخرى القاهرة وقد دمرت تدميرا ويقوم الحاكم العسكري بعفو شامل لجميع السكان مقابل دفع ضريبة هذه التمردات قدرها سبعة عشر مليون فرنك ويعفى منها النصارى واليهود (طبعا لأنهم حلفائهم) ولكن مينو يجبرهم على دفعها بضغط من المسلمين، ويجري إلزام كبار المشايخ على دفع الضريبة عقابا على تعاونهم مع العثمانيين فيتم إلزام الشيخ السادات بدفع نصف مليون فرنك والذي يجري احتجازه بالقلعة وضربه لإجباره على الدفع وهو من توسل إلى كليبر كي يجنبه هذه المهانة مع كبر سنه ، أما المهدي والبكري فيتم إعفائهما وتتم هذه الإجراءات في جو من الإرهاب والتخويف الجسدي، ويكلف المعلم يعقوب بجمع الضرائب المفروضة على المدينة.

 

الشيخ السادات الذليل:

 

{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} الحج 18

فهذا الذي تعاون من المحتل منذ أن حل بخيله ورجله كتب يقول لكليبر:

«أقسم لك بالله الذي خلق كل شيء وجعلك سلطانا منصورا، إن كل ما قيل لك عني هو نتاج دسائس أعدائي وأنه زائف، وقد كنت على الدوام منذ وصول القائد العام بونابرت والفرنسيين إلى القاهرة صديقا لهم، وأقسم بالله أنني أميل إليهم وعندما دخل العثمانلية وسلكوا سبيل القتال، لم أكف عن تمني انتصاركم والجميع يشهدون على ما أقول، ومن بينهم الشيخ المهدي والمال الذي أخذوه إنما أخذوه بالقوة والاحتيال كالمال الذي أخذه أحمد المحروقي.

 

ولم يحدث قط أن والدي ولا من ربوني قد ضربوني، على العكس إن العلماء والكبراء قد كرموني واحترموني دائما، وقد أبدى الأمراء الاحترامات نفسها.

 

وإذا ما أمتني فما هي الثمرة التي سوف تتأتى من موت عجوز عاجز له أطفال وعائلة، إن أصدقاءك أنفسهم سوف يغضبون من ذلك وسوف يكون دمار بيت السادات المكرم منذ خمسمائة سنة هو نتيجة ذلك وسوف يكتب في التاريخ أن الجنرال كليبر قد دمر أول بيت في القاهرة، وهو ما لا تريدونه بالتأكيد، أما فيما يتعلق بأولئك الذين يؤكدون أنني دفنت المال، فليجيئوا إذن لإخراجه ما داموا عليمين بالأمر»

 

أما حالة الذل والإهانة والضرب التي تعرض لها رجل في الثامنة والستين من عمره لهي الجزاء الوفاق لمن جلس مع المحتل ورآه حاكما متغلبا.

 

أصيب المصريين باليأس عقب فشل الانتفاضة الثانية وترك سكان المدينة العاصمة وانتقلوا إلى الأرياف ولكن سرعان ما عادوا لغياب الموارد وانقضاض الفرنسيين على ممتلكات الغائبين يصادرونها وبدا النصارى متبجحين ويتصرفون كما لو كانوا يريدون القضاء على الإسلام، فكانوا بإيعاز من رؤساء الأقسام النصارى المعينين من الحاكم العسكري وبمعاونة الأرمن واليونانيين ينقضون على بيوت المسلمين التي يتم الوشاية بها بأنها تحتوي على أموالهم أو ممتلكاتهم التي أخذها المسلمون أثناء الانتفاضة مما جعل كليبر يصدر أمرا باحتواء هذه الإجراءات التي من شأنها تكدير الأمن العام.

 

وللحديث بقية إن شاء الله

فاتن فاروق عبد المنعم

من فاتن فاروق عبد المنعم

كاتبة روائية وعضو اتحاد كتاب مصر