المقدمة:

عندما تنزل القرآن الكريم مخاطباً العرب، كان العربي يقدر الفصاحة ويملك ناصية البيان، وكانت العرب تتنافس فيما بينها على الوصول إلى الدرجات العليا منه. وقد ارتقى الفن الشعري عندهم إلى مرحلة متطورة من الأداء والدقة، حيث أصبحت له مقاييسه النقدية الثابتة في أوزانه وقوافيه وتعدد أغراضه، وتفاصيل معانيه، واصبح البحث عن الابتكار وتحريه من مقاييس المرحلة، لعراقتهم في ذلك الفن. واستطاع العربي بما عرف عنه من صفاء الذهن وحب التأمل وتراكم الخبرة، أن يدرك الفروق الدقيقة للمعاني في لغته بصورة مذهلة، تكشف عن مدى تعلقه بها وتفاعله معها، فهذا أحد الأعراب عندما سمع بدعوته صلى الله عليه وسلم سأل إلى ما يدعو صاحبكم؟ قالوا له يدعو إلى ” لا اله إلا الله ” فكان جوابه: ” إذا تقاتله عليها العرب والعجم ” وهذا دليل على إدراك العربي لمدلول لغته ودقائق أسرارها.

ولما فاجأه القرآن ببيانه، وأعجزه بنوعه المتميز، كان يدرك الفارق بين نسق الشعر ونسق النوع البياني الجديد الذي جاء به القرآن الكريم.

وكان كبراء القوم – من المشركين – يدركون هذا ويعترفون به، وتنقله مصادر التاريخ عنهم، فهذا الوليد بن المغيرة يقول في لغة القرآن الكريم ” إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة وإنه لمثـمر أعـلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلا عليه “(1). وشهادة أخرى للنضر بن الحارث ” والله ما هو بالشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزة.. والله لقد نزل بكم أمر عظيم،،(2).

نعم هم الخبراء في فارق القرآن الكريم عن الشعر، ولكنه الكفر والعناد والدفاع عن المصالح، يدفعهم للوقوف في وجه الدعوة، ومقاومة تأثير القرآن الكريم على قلوب السامعين بحملات التشويه لوضع العراقيل أمامها.

ومن هنا شاءت حكمة الله سبحانه وتعالى أَن تفتح ملف هذه الشبهة التي قارن فيها العرب بين النبي والشاعر، والقرآن الكريم والشعر؛ لتصحيح الأفهام وتنوير العقول وإحقاق العلم، الذي يكشف التضليل ويعري الشبهات، وهذه هي حيوية القرآن في معالجة الانحراف الذي يقع فيه البشر، ينزل منجما حسب الحوادث وأحوال المخاطبين وأسباب النزول، لأنه جاء لإلغاء واقع جاهلي وإنشاء واقع إسلامي، من خلال معالجة انحرافات الفهم البشري، حسب الحاجة، وبقدر الحاجة في وقت حصولها لا قبل ذلك ولا بعد ذلك.

الآيات الكريمة في المرحلة المكية: (التي ورد بها كلمة الشعر والشاعر).

1- قال تعالى (وما علمناه الشعر وما ينبغي له، إن هو إلا ذكرٌ وقرآن كريم) 69يس (مكية).

2- قال تعالى (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر) 5 الأنبياء (مكية).

3- قال تعالى (ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون)  36 الصافات (مكية).

4- قال تعالى (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) 30 الطور (مكية).

5- قال تعالى (وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون) 41 الحاقة (مكية)

شبهة المقارنة بين – النبي صلى الله عليه وسلم – والشاعر: 

من خلال مراجعة كتب التفسير لهذه الآيات الكريمة،يظهر للباحث طبيعة الخطاب القرآني الكريم الموجه للعرب؛ لكشف المغالطات وإيضاح الحقائق من خلال مصادرها وغاياتها: فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس شاعراً، لأنه يتلقى القرآن الكريم من مصدر علوي خارج عن مشاعره وإرادته، وفي هذا تفريق وتوضيح، لطبيعة الشاعر الذي يصدر عن مشاعره؛ لأَن الشعر تعبير عن الرغبات والمشاعر والأهواء و النوايا والمواقف، وهو قيمة لإحساس الشاعر بالحياة من حوله، أما النبي – صلى الله عليه وسلم – فعلاقته بالقرآن هي عــلاقــة المبلغ الأمين الذي يتلقى رسالة ربــه ويبلغها للـناس (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)  (3،4 النجم) ولذلك فالشعر لا يليق بمقامه ووظيفته، لأن للشعر منهجاً غير منهج النبوة، يختلف الاثنان في المصدر والغاية، النبي إنسان مكلف بنقل الأمر الرباني على منهج ثابت، لا يملك فيه لأمر نفسه شيئاً ولا تختلط مشاعره بكتاب الله سبحانه وتعالى، ووظيفته التلقي والتبليغ، لا يملك من معنى القرآن الكريم ومبناه شيئاً، والخلاصة في هذا:

أَن النبي (وما ينطق عن الهوى) والشاعر (ينطق عن الهوى)

الشبهة الثانية المقارنة بين الشعر والقرآن الكريم:

ويخاطب الله سبحانه العرب ليتعلموا الفارق بين الشعر والقرآن الكريم، من خلال المصدر والغاية أيضاً، موضحاً لهم (إن هو إلا ذكر وقرآن كريم) غايته هداية البشرية إلى العقيدة الكاملة الشاملة التي تفسر الحياة، وتدعوا الإنسان لعبادة الله، على منهج واضح بيّن وشريعة تقنن له شؤون حياته، وتوصله إلى سعادة الدارين، ومصدره ليس من محمد ولا من مشاعره، وإنما هو كلام الله سبحانه وتعالى إلى خلقه وما هو بقول شاعر قليلاً ما توقنون.

الشعر يصدر عن ذات الشاعر وغايته التعبير عن نفس قائله.

والقرآن الكريم كلام الله المنقول مبنى ومعنى من الوحي الكريم إلى محمد – صلى الله عليه وسلم- غايته هداية البشرية وإقامة أمره وتذكيرهم بمسؤولية الحساب.

المستخرجات الشرعية الأخرى في قضية الشعر من هذه الآيات الكريمة:

1- يقول الله سبحانه وتعالى (الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان) سورة الرحمن(1-2) إن الله سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان وأحيا قلبه بالمشاعر، وأوجد عنده القدرة على الإبانة والإفصاح والتعبير عن نفسه، يريد أن يكشف مغالطات كبراء المشركين، في تضليل الناس عن حقيقة القرآن الكريم، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هدف الآيات الكريمة هو تعطيل مسيرة هذا الفن واستأصاله من الحياة؛ لان الشعر فطرة ربانية؛ ولان الله علم البيان وهدف البيان، هو التعبير شعراً ونثراً، وفي سكوت القرآن الكريم عن الشعر وقواعده وأوزانه ما يقر العرب على فنهم، ولا نلمس من الآيات الكريمة ما يفيد التهوين من أَمر الشعر أو تحقيره.

2- ويُفهم من الآيات الكريمة أيضاً إيضاح طبيعة الفن الشعري للعرب، بعد أن غمض عليهم فنسبوه إلى العبقرية والأمور الخارقة، من خلال عملية رفض المقارنة بين القرآن والشعر في المصدر والغاية.

فالشعر كلام ” ينطق عن الهوى ” والقرآن ” وحي يوحى ” وفي كشف وتفسير الملكة والموهبة الشعرية وأصولها ما يصحح كثيراً من المقاييس القائمة لهذا الفن في أذهانهم، ما دام أن الشعر قد حصر بين الآيتين الكريمتين وما ينطق عن الهوى  علمه البيان، لأنَّه بيان يعبر عن الهوى والمشاعر البشرية.

3 – الشعر فن ينطلق من الذاتية والنسبية وإدراك الشاعر للدنيا من خلال ذاته، ولهذا فقد ينحرف الشاعر ويجر عنان الموهبة الفطرية الربانية لخدمة المصالح والأهواء، ولابد للإسلام أن يتدخل ليصحح مسيرة توظيف هذه الموهبة وإيضاح المسار الحلال لها؛ ولكن التصحيح يرتبط أولاً بقضية أُولى وهي تصحيح العقيدة، وعندما يسهل على النفوس الانقياد لأمر الله سبحانه وتعالى، ولكن الأمر سابق لأوانه، لأن المرحلة المكية هي مرحلة بناء العقيدة في النفوس، والمسلمون يعيشون في مجتمع مكة الجاهلي أفراداً مبعثرين، ولا يملكون التعبير أو إقامة الأحكام فيه.

من عباس المناصرة

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية