الأمة |

هل يمكن تعلم التجويد بلا معلم؟

التجويد علم يُتلقى مشافَهةً ويكاد يستحيل تعليمه بلا معلم، لأن جوهره هو الصوت، والصوت لا يوصَف بالكتابة وإنما يُتلقى بالتمرين والتلقين الحضوري مع الاستماع والمحاكاة والتوجيه والتصحيح. لذلك بدأتُ هذه السلسلة بملاحظة أكررها من باب التوكيد: ليس القصد من هذه المقالات تعليم التجويد، وإنما القصد تنبيه المتعلمين إلى أخطاء في الأداء يستطيعون تمييزها بالوصف النظري لأنهم يعرفون أصولها وأسسها بالتعلم العملي الذي تلقوه في حلقات التحفيظ ودروس التجويد.

 

فمن كان مُلمّاً بأساسيات التجويد وقد تلقاه مشافَهة من قبلُ فإنه سوف يستفيد من هذه الحلقات -بإذن الله- مستعيناً بثلاث أدوات متاحة لكل إنسان: الأولى هي المرآة، والثانية جهاز تسجيل واستماع، والثالثة تسجيلٌ مصوَّر لقارئ حاذق. فأما المرآة فإنها تساعد المتعلم على اتخاذ الوضعية الصحيحة للشفتين عند النطق بالحرف، وأما التسجيل والاستماع فإنه يساعده على معرفة نجاحه وإخفاقه، ويتحقق له ذلك بالأداة الثالثة، فإنه يسمع تسجيل نفسه ثم يسمع تلاوة القارئ الضابط ويقارن بينهما، ثم يكرر السماع فيدرك موضع الخلل عنده، وما يزال يكرر التسجيل والاستماع حتى يصل إلى الإتقان الكامل بإذن الله.

 

هذا الأسلوب في تعلم الأداء الصوتي وإتقانه مجرَّب معروف، وأنا نفسي لي معه تجربة مثمرة سأرويها باختصار من باب الفائدة. فقد تعلمت في شبابي اللغة الإنكليزية في معهد أمريكي، ثم أردت أن أتعلم اللهجة البريطانية فاقتنيت مجموعة تعليمية متقدمة من إصدار جامعة أكسفورد، كان فيها كتاب وأربعة أشرطة صوتية (كاسيت) ومرآة صغيرة. وكان عليّ أن أسمع النطق في الشريط وأشاهد شكل الشفتين في الكتاب ثم أحاكيه وأنا أراقب شفتَيّ في المرآة، وما أزال أكرر وأغير حتى أصل إلى محاكاة صحيحة للصوت المسجل.

 

وكنت في تلك الأيام أحدَ وكلاء معاجم أكسفورد في الشرق الأوسط، فاتفق أن زرت في وقت لاحق مطبعة جامعة أكسفورد (التي تطبع تلك المعاجم الشهيرة منذ أكثر من قرن، وهي ثانية أقدم مطبعة جامعية في العالم بعد مطبعة جامعة كامبريدج) واصطحبني مدير المبيعات في جولة في الجامعة والمطبعة، وفيما نحن نتبادل الحديث سألني بغتة: هل تعلمت في جامعة أكسفورد؟ عجبت من سؤاله وأجبته بالنفي، فقال (وهنا الشاهد) لأن لك لهجة أكسفورد العريقة. قلت ضاحكاً: هذه ثمرة برامجكم التعليمية اللطيفة التي أغنتني عن صرف الوقت وإنفاق المال في الدروس والدورات.

 

فالخلاصة: من أراد أن يستفيد من هذه السلسلة من المقالات وهو لم يتلقّ شيئاً من علم التجويد مشافَهةً فلن يستطيع، فهي ليست مكتوبة له وإنما لمن تعلم التجويد وعرف قواعده وأصوله. فمن أراد الاستفادة منها فليستعن بجهازه الذكي ليسجل أداءه ويستمع إليه، ولتكن أمامه أثناء التمرين مرآة يراقب فيها وجهه ليلاحظ شكل الشفتين وحركة الحنكين، وليجهز تسجيلاً لقارئ متقن ضابط ليسمعه ويحاكيه في النطق الصحيح. وفي القراء متقنون كثيرون، ولو أني سُئلت عن أفضلهم وأعلاهم في الأداء لاخترت الشيخ الحصري رحمه الله.

 

وإلى الحلقات.

من مجاهد ديرانية

كاتب وباحث إسلامي، سوري