السكت في غير موضع السكت

ابتُلينا في مسجدنا مدةً بإمامٍ قراءتُه متوسطة ومخارجُه دون الوسط، وكان من عيوبه أنه يَمُدّ حيث لا مَدَّ (وهي مشكلة شائعة سأتعرض لها في الحلقة الآتية إن شاء الله) ويسكت حيث لا سكت، ولا سيما في موضعين: على رأس الآية الأولى في سورة الفجر والآية الأولى في سورة العصر، فيقرأ: «والعصرْ»، كذا بالسكون، ثم يستأنف بعد ثانية واحدة دون استنشاق نفَس جديد: «إن الإنسان لفي خسر». وكذلك في آية الفجر.

 

ولأنه كان يكثر من قراءتهما في الصلوات فقد شجعت نفسي على لفت نظره إلى خطئه فيهما، فسلمت عليه بعد الصلاة ذات يوم وأثنيت على تلاوته (من باب المجاملة، قياساً على جواز الكذب من أجل الإصلاح) ثم قلت له إن من تمام حسن تلاوته أن يقف هنا وهنا ولا يسكت، أو يصل الآيتين فيحرّك آخر الكلمة ولا يسكّنها (أي يقرأ: والعصرِ إنّ الإنسانَ لفي خسر). ولفتّ نظره أيضاً إلى الإسراف بالمد حيث لا مد، أما المخارج فلم أتطرق إليها لأنها نصف التجويد، ونصف العلم لا يُتعلَّم في حوار عابر. على أني لم أستفد شيئاً وبقي أداؤه على حاله، لأن مَن تعلم العلم خطأً واستمر على خطئه زماناً لا يَسهُل شفاؤه منه، ومن هنا كان علماؤنا يكرهون التصدر قبل التمكن ويذمون التزبّب قبل الحَصْرَمة.

* * *

وبعدُ، فما الفرق بين الوقف والسكت؟ تسعة أعشار قراء هذه المقالة يعرفون الجواب، فالوقف هو انقطاع الصوت تماماً واستنشاق نفَس جديد قبل استئناف التلاوة، وله مواضع قليلة يلزم فيها وجوباً، ومواضع قليلة لا يجوز فيها الوقف، ومواضع يجوز الوقف فيها وهو أفضل من الوصل، أو يجوز والوصل أولى.

 

والغالب أن يكتفي القارئ بعلامات المصحف لمعرفة تلك المواضع كلها، مع أخذ ملاحظتين بعين الاعتبار: أن تلك العلامات لا تستوعب كل وقف جائز في القرآن، بل إن فيه أوقافاً كثيرة سائغة يمكن للقارئ أن يقف عليها إذا تم بها المعنى، حتى لو لم يجد في المصحف علامة الوقف عندها.

 

هذه الأولى، والثانية أن الوقف على رؤوس الآي جائز مطلقاً، بل إن هذه هي السنّة على أصحّ قولَي العلماء في المسألة، سواء أتعلّقت الآية بما بعدها أم انقطع المعنى بها. وأذكر أنني صليت مرة بجماعة صغيرة في مركز تجاري وقرأت سورة الماعون فوقفت على رأس الآية الرابعة، فلما سلمت اعترض أحد المصلين قائلاً إن هذا الوقف لا يجوز. قلت: بل هو جائز يا أخي الكريم، إن لم يكن أفضلَ من الوصل، أما الممنوع فهو القطع مطلقاً، يعني أن أقف عند رأس الآية وأركع مُنهياً التلاوة. فلم يقتنع، أما أنا فندمت على تلك القراءة ولم أعد إليها في جماعة في مكان عام لأن مناقشة العوام لا تفيد.

* * *

إذن فإن الوقف هو قطع الصوت زمناً قصيراً مع التنفس. قال في «إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر» (1/313): «هو قطع النطق في آخر الكلمة زمناً يتنفس القارئ فيه بغية استئناف القراءة، ولا بد من التنفس معه كما حرره صاحب النشر».

 

وهذا هو الفرق الجوهري بينه وبين السكت، فالسكت توقف خاطف، تقديره أن يكون نحو نصف وقت الوقف، والضابط فيه أنه بلا تنفس. أي أن القارئ يكمل التلاوة بالنفَس نفسه الذي بدأ به. وفي قراءتنا (حفص عن عاصم، عن طريق الشاطبية) أربعُ سكتات واجبة واثنتان جائزتان. فهذا سِتُّ سكتات، ثلاثٌ منها في وسط الآيات، وكلها واجبة، وثلاث في رؤوس الآيات، اثنتان جائزتان وواحدة واجبة. ولن أطيل المقالة بتفصيل هذه الثلاث الأخيرة لأن الوقف على رؤوس الآي يَحُلّ مشكلة السكت فيها.

 

السكتات الثلاث الواجبة في وسط الآيات هي الآية 27 في سورة القيامة: {وقيلَ مَن/راق}، والآية 14 في سورة المطففين: {كلا بَل/رانَ على قلوبهم}، والآية 52 في سورة «يس»: {قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا/هذا ما وعد الرحمن}، والوقف هنا (في هذا الموضع الأخير خاصة) جائز للقارئ، لكنْ إن وصلَ وجب السكتُ حتى لا يَهِمَ السامعُ ويظن أن «هذا» تبع لما قبلها، وإنما هي استئناف لكلام جديد.

 

وقد علّلوا وجوب السكت في الموضعين الأوّلين بالخشية من توهّم الكلمتين كلمة واحدة، فلو اتصلت التلاوة لَوَجب إدغام الأولى بالثانية في الحالتين؛ في الأولى نون ساكنة بعدها راء فتُدغم بلا غُنّة كما هو معروف، فتصبح «مَرّاق»، وهي لفظة موهمة قد لا يَستبين معناها الأصلي للسامع من الوهلة الأولى. وكذلك في الموضع الثاني، التقى حرفان متقاربان مخرجاً (اللام والراء) فوجب إدغامهما، فتصبح «بَرّان». وهي أيضاً كلمة موهمة يضيع معها المعنى الأصلي للكلمتين المنفصلتين.

من مجاهد ديرانية

كاتب وباحث إسلامي، سوري