مزوار محمد سعيد

نظرة خاطفة على عالمنا اليوم ستجعلك تكتشف أمورا فظيعة للغاية، بحيث تدفعكَ للتساؤل عن قيمة الإنسانية، ومدى حضورها في الواقع، إذ لن يكون من السهل على أيّ كان أن يتحمّل مشاهد الدمار والخراب الذي ينتشر هنا وهناك من جهة، ثم يذهب إلى فراشه لينام نوما هادئا من جهة اخرى، دون أيّ وخزة ضمير، وكأن الأناقة التي نشهدها في كافة الدول العالمية من مظاهر جميلة للحضارة، هي في الأصل نتائج تدفع الإنسانية ثمنا باهضا لقاءها من دماء البشرية وأشلائها.

ليس من المهمّ أن يكون الفرد الإنساني ذا مظهر جميل، إن ما جعله ذاك المظهر يقتل أبرياء لقاء مال يسدد به فواتيره المختلفة، هنا يصبح الأشعث الأغبر بين الناس والذي يحمل يديْن نظيفتيْن من أي قطرة دماء، أفضل بكثير من الرجل المجرم بربطة عنق أنيقة.

إنّ عملية تجاوز الواقع والهبوط عند مستوى الحضور العاطفي للإنسان يتجاوز كل المحرمات في حالات العمى الأناني الذي يصيب بعض أبناء الإنسانية، فعلاقة الفرد بذاته هي مستترة، وبالتالي هي قائمة على الأخذ بالحسبان قدرة الفرد على تفهّم الحياة ومقدرته على إعطاء البشر حقهم، فعدم تسلّق سلّم الأمجاد من أجل الابتعاد عن الإجرام أرقى بكثير من الوقوف على القمة بعد اجتياز أكوام ضخمة من الجماجم.

سرقة اليد العاملة من آسيا المؤهلة والرخيصة، سرقت الموارد الطبيعية من أفريقيا بأثمان التراب إن كان لها ثمن، الهجوم الإعلامي والنفسي على أمم وشعوب بأكملها منها الأوربية والروسية إضافة إلى شعوب أميركا اللاتينية، كلّ هذا إضافة إلى التباكي على الأخلاق والقيم من حرية وديمقراطية، هي تصب في جيوب أباطرة وول ستريت وحلقات دوائر القرار في واشنطن ونيويورك.

الهجوم على الديانات والفلسفات هو في الأصل هجوم على الروح الإنسانية وتقديس كل ما هو مادّي صِرف بحيث تغدو الأمور الجوهرية بالداخل الإنساني عبارة عن فهم متصاعد لإمكانيات التوحش العصري، فلو نظرنا إلى المسألة من وجهة أخرى، سنجد بأن اضخم ميزانيات الدول اليوم هي تلك التي تُصبّ في خانات الدفاع وصناعة المعدات القتالية، وهي بالأساس ليست من أجل الدفاع عن النفس والأمة كما يدّعي القائمون عليها، إذ أنّها تصب فقط في جيوب عمالقة القتل وتسويق الهدم للإنسان والبنيان عبر رقعة الأرض الواسعة.

أينما تولي وجهكَ في عصرنا ستجد الإنسان هو القيمة الخفية الرديئة دائما، أنظر إلى عالم الجمال، فإن تجارة البغاء هي المزدهرة من جهة، وتسويق منتوجات التجميل هي الرائجة، أنظر إلى عالم الرياضة، فستجد لكلّ لاعب سعره، أنظر إلى عالم التكنولوجيا والتقنية فلكل آلة سعرها، أنظر إلى عالم الصحافة، فستكتشف أنّ لكل حرف سعره، أنظر إلى عالم القيادات ومباهج الحياة، ستجد حتى الأحلام لها أسعارها، والعدادات لا تملّ من العدّ والحساب.

لقد تحوّل العالم إلى الأنانية المقيتة، هان كل شيء، لم يعد لأيّ شيء أي قيمة معنوية، وصارت الحياة ملكية خاصة لمن يدفع أكثر، إذ الفقر فيها لم يعد عيبا فحسب، وإنما تحوّل إلى مرادف هزيل لمصطلح: الفناء، بينما تحوّل الغنى إلى ضمان اجتماعي خالص يحمي صاحبه من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

مثلما اُستعملت الديانات في العصور الوسطى على الأراضي الأوربية لمحاربة الإنسان وسلبه كل ما يملك، تحولت المفاهيم وبقيت الآلية واحدة، إذ إنّ الديانات صارت فكرة ساذجة لدى الجماهير، فقد فهم أغلب سكان الأرض بأن الفرق شاسع بين الدين ومَن يستغلّ الدين، لهذا استبدلوا مصطلح الدين بالإنسانية، فتحوّل الرجل الذي كان في الوقت القريب يلبس سترة القساوسة ويحمل الصليب من جهة بينما هو يسرق ويستعبد الناس من جهة أخرى، إلى رجل يلبس بذلة أنيقة ويشارك في الأعمال الخيرية من جهة، في حين هو يموّل الحروب ويعمل على استمرار رحاها من جهة أخرى، والكلمة الفصل في هذا كله هو: الأنانية، إذ سقط حرف السين من كلمة إنسانية وتحركت همزتها الأولى لتتشح بالفتحة اللئيمة.

من مزوار محمد سعيد

أكاديمي وباحث جزائري، متخصص في الفلسفة والتنوّع الثقافي.