لو الجهلة والأوباش دول دخلوا الجنة فسيدخلوها فقط كي يكنسوها وينظفوها لنا نحن معشر العلماء!!

أومال إيه؟ انتم فاكرين يكونوا زيهم زينا كدة ما فيش فرق بيننا؟!
مستحيل طبعا..

كانت هذه الكلمات الحادة في وقاحتها وجرأتها وتأليها على الله هي ما فاجأنا به ذلك العالم المخضرم والذي قرر تشريفنا أثناء دراستنا الجامعية بمحاضرة قيمة أبهرنا خلالها فعلا بعلمه الغزير وسعة اطلاعه وقدرته على عرض المعلومات الطبية المعقدة بطريقة سهلة ممتعة.

الحق يقال؛ الرجل كان بالفعل رائدا في مجاله وكان يعد في تلك الأيام من أهم علماء تخصصه وكان تمكنه يظهر في كل لحظة من محاضرته.

لكن تلك الكلمات الأخيرة التي ختم بها المحاضرة وهو يرقب بتفاخر أعيننا عديمة الخبرة والمنبهرة بعلمه = كانت كلمات صادمة حقا!

أيمكن للعلم أو للترقي في أي من أبواب الدنيا أن يصل بالإنسان لهذه الدرجة من الكبر والتي تجعله يتصور أن من حقه تقسيم الخلق كيف يشاء بهذه الجرأة؟!

للأسف نعم.

هذا ما حدث ويحدث كثيرا.

والأخطر أنه يشكل حاجزا وعائقا رهيبا يحول بين المرء وبين قبول الهدى والانخراط في ركب الصالحين.

إنه النظر إليهم بعين الاستعلاء والكبر.

أعرف كثيرين كان ذلك هو الحاجز الأهم الذي صدهم عن الهداية.

النظر لمعاشر الملتزمين بتلك النظرة الفوقية.

كان هذا دأب ذلك الأستاذ الجامعي الذي ما كان يترك فرصة يواجه فيها أحد من يبدو عليهم التسنن إلا استغلها في تحقيره وإهانته وإبداء اشمئزازه منه ومن سمته ومن التزامه ككل.

ولم يكن وحده هكذا.

قابلت كثيرين كانت تلك طريقتهم في معاملة المتدينين أو على الأقل نظرتهم لهم
أحيانا يحدثوني عن ثيابهم.

عن شكلهم.

عن تبسطهم.

بعضهم كان إذا قبل على مضض أن يأتي إلى بيت من بيوت الله = يأنف أن يجلس بين الناس على الأرض لا لعلة في بدنه ولكن لعلة في نفسه.

هكذا كانوا يصرحون في لحظات صفاء.

أنا أجلس على الأرض بين هؤلاء؟
ألا ترى منظرهم؟

ألا تلاحظ هيئتهم؟

ألا تبصر آثار مهنتهم؟

أعرف رجلا كان يأنف من مجرد بعض مصافحة أهل المساجد كي لا تلتصق بيده الفاخرة رائحة المسك الرخيص التي يضعونها.

ربما كانت رائحة نفاذة فعلا وربما لا تمت للمسك الحقيقي بصلة
لكن هذا ما كانوا يجدونه.

وهذا ما كان يصد صاحبنا عن مصافحتهم.

أو هكذا كان يدعي لكنه بعد حين اعترف لي بسبب آخر،

كان يحتقرهم.

لا يتصور أن يخالطهم ويكون رأسه برؤسهم وكتفه في أكتافهم.

أين هم من عظمته وعلمه ونسبه وحسبه؟

بل حتى هذا الخطيب أو المحاضر من هو ليجلس ثانيا ركبتيه مستمعا إلى ما لديه من علم؟

هل هو من مستواه العلمي والثقافي أصلا؟

“وقالوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ”.

هكذا تساءل أهل قريش يوما معترضين على نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

وهل كانت هذه هي المشكلة؟

هل كانت كل قضيتهم أنه ليس من زعماء المجتمع أو من عظماء ماديتهم السطحية؟!

و الأهم.. هل هم من يقررون ويقسمون رحمة الله؟!

“أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ”.

نفس المنطق المريض في كل زمان ومكان.

منطق الحكم من خلال الظاهر.

ثم الاستكبار بذلك الحكم المادي.

هو نمط من الخلق لا يلتفت انتباهه إلا للمظاهر المبهرة ولا ينجذب بصره إلا لزينة براقة أو زخرف لامع.

هم قوم يقيسون الحق والباطل فقط من خلال مقياس العظمة الدنيوية والمكانة المادية والمنصب الضخم والنسب الفخم والثراء الفاحش والنعيم الزائل.

إنه النمط الذي تبهره زينة قارون وقوة عاد وعلو النمرود.

النمط الذي يستخفه فرعون ومنطقه المعروض في نفس السورة “الزخرف” إذ ينادي ويقول: يا قوم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي.

هذا هو ما أرادهم أن ينتبهوا إليه ثم سألهم أَفَلا تُبْصِرُونَ.

هو إذاً ترسيخ للحكم البصري المظهري والتقييم القائم على أساس الرؤية الخارجية والمقاييس المادية ثم الاستعلاء بها وجعلها حاجزا وعائقا عن الهداية المنشودة ..

لذلك كان القياس الذي ظنه فرعون منطقيا “أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِين”.

َ لقد قاس على نفس المعيار الذي ينبهر به خفيفو العقول في كل زمان.

معيار المظهر الخارجي وزخرف الفعل والقول.

ومن يقيس على هذا الأساس يستحق بجدارة أن يتسلط عليه فرعون وأمثاله فهم ممن قال الله فيهم في السورة نفسها: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ.

قوم فاسقون بمعيارهم الفاسد وحكمهم المنقوص وتصورهم المريض الذي هيأ لهم ولأمثالهم أنهم يقسمون رحمة ربك يعطونها لمن أعجبهم ويمنعونها من حقروه ولم تبهرهم زينته وتخطف أبصارهم لمعة نسبه ومكانته.

بنفس الفكر وصل صاحب الجنتين الذي ذكر الله قصته في سورة الكهف إلى تلك القناعة الغريبة والمعتقد البشع حين أعجبته ثروته وأسكرته جنته فصدته عن الهداية والاستجابة لصاحبه المؤمن ودخل تلك الجنة مستكبرا ظالما لنفسه وقالَ “مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا”.

من أين عرف ذلك وكيف وصل إلى هذا المعتقد؟!

الإجابة ببساطة هي نفس الاغترار بالمظهر الزائف والزخرف الزائل وما يفعله بالنفس من استكبار وغي.

ومن هنا أيضا أقسم بعض أهل النار يوما أن لن ينال الطائعون رحمة

“وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ۚ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ”.

ولقد نسي أو تناسوا أن الله هو من قسم بين الناس معيشتهم ورفع بعضهم فوق بعض درجات.

لكنه المنطق نفسه دوما.

الاستكبار الذي يصد كثيرا من الخلق عن الهدى إذ جاءهم.

هكذا فعل قوم نوح وهذا ذات ما قالوه عنه وعمن اتبعه.

{مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا..
وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ..
وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل..
بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}.

لا جديد تحت الشمس.

نفس ما يقوله وسيقوله العالون المتكبرون في كل زمان ومكان،

نفس نظرة العلو والاستغراق في استعظام النفس والاستكبار في الأرض،

نفس عجرفة فرعون، وعلو النمرود، وغرور ملك الأخدود، وكبر قوم عاد وثمود.
وكأنها صفات وراثية تتكرر في متكبرى كل جيل، لتقف حائلًا بين المترفين المنعمين وبين الهداية لصراط الله المستقيم،

ألفاظ تتكرر في كل جيل باختلافات بسيطة لا تغير المعنى الثابت، ولا تهز ذات الفكرة الراسخة في قلوب المتكبرين.

فكرة الاغترار والاستعلاء بالقوة،

بالجاه،

بالنسب،

بالسلطان،

بالمال،

إنها الفكرة الذي دفعت فرعون لأن يقول لموسى ما ذكرناه منذ سطور،

وهي نفس الفكرة الذي ستدفع أهل مدين لأن يقولوا لشعيب: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}،

وهي التي ستدفع مترفى كل قرية وأكابر مجرميها ليمكروا فيها، لا لشيء إلا استكبارًا في الأرض، ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.

إنها تلك الطبقية المقيتة لا محل لها في واحات الهداية المظللة بظلال الأخوة الإيمانية الوارفة، والتي لا تميز غنيًّا ولا فقيرًا ولا قويًّا ولا ضعيفًا ولا سيدًا ولا عبدًا ..
الكل أمام الهداية سواء كأسنان المشط، لا يتفاضلون إلا بقبولهم لهدى الله الذي أنزل إليهم ..

{وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}.

{وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}.

هكذا أجاب نوح على استكبار قومه الذي حال بينهم وبين الهداية،

أفيطرد الناس لأنهم فقراء؟!

هل يطلبون دينًا طبقيًّا لا مكان فيه للبسطاء؟!

وحتى لو كانوا يتهمونهم بالسفول والدنو، فقد أقبلوا على الله وأنابوا إليه، فهل نقطع على الخلق طريق هدايتهم بسبب رقة حالهم؟!

أي منطق هذا؟!

بل أي ظلم وأي تجبر؟

و كـأن بعض الأكابر الأغنياء يرون أولئك البسطاء لا يرقون لمنزلة البشر، ولا يستحقون عيشًا كريمًا لا في الدنيا ولا حتى في الآخرة،

وكأن سيدنا نوح عليه السلام يرد عليهم: هؤلاء الذين قلتم عنهم إنهم أراذلكم، وازدرتهم أعينكم، هم بشر أيضًا مثلي ومثلكم،

لا فضل لأحدنا على الآخر إلا بما يعلمه الله في نفسه من التقوى،

أنتم أيها الكبراء من زعمتم لأنفسكم فضلًا على غيركم،

وهكذا حال المستكبرين في كل زمان،

يحقرون غيرهم ويرون أنفسهم فوق البشر بسبب ذلك الكبر الذي تمكن من نفوسهم والعلو الذي استشرى في مجتمعهم.

بالنسبة لمستكبري قوم نوح فقد استحقوا أن تطهر الأرض منهم، ويغسل ظاهرها من تعاليهم.

وليأت جيل جديد قد طَهُرَ من تلك الأفكار المريضة.

ولينشأ مجتمع لا مكان فيه لتفاضل بجاه أو بمال أو بنسب أو بمنصب.

ولو كان هذا النسب لأقربكم إلى الله.

ولو كان نسبًا مباشرًا لنبي ورسول
ولو كان ابن نوح نفسه فإن بنوَّته لنبي لن تغني عنه من الله شيئًا

إنه المعيار الذي لم يعرفه الهالكون في الطوفان.

ولم يعرفه الغارقون في أمواج العلو والاستكبار إلى يومنا هذا.

معيار التقوى والعمل الصالح.

المعيار الذي من دونه لم يغن نوح عن ولده وزوجه،

ولم يغنِ لوط عن امرأته،

ولم يغنِ إبراهيم عن أبيه،

ولم يغنِ محمد عن عمه،

بل حتى ابنته التي هي من خير نساء الدنيا؛ قال لها: (اعملي فلن أغني عنك من الله شيئًا)!

ابنته التي قال يومًا أنها لو سرقت -وحاشاها أن تفعل- لَقَطَعَ يدها.

هذا هو معيار التفضيل الحق، ومناط النجاة الوحيد الذي كان ينبغي أن يظهر في الأرض، وأن تطهر المعمورة من خلافه، فتغسل من أدران الطبقية والتعالي والتفاخر بالأنساب والأموال، التي جُعلت ردحًا طويلًا من الزمان حائلًا بين المتكبرين وتوحيد ربهم، وأغرقتهم في بحار الشرك، قبل أن تغرقهم أمواج الطوفان المتلاطمة العاتية
وهي إلى اليوم تشكل عائقا من أهم العوائق التي نتحدث عنها:

– عوائق الالتزام.

– والأخطر أنها قد تشكل يوما عائقا أبشع.

– عائقا عن الجنة.

ذلك الذي حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر”

د. محمد علي يوسف

من د. محمد علي يوسف

طبيب وكاتب وخطيب ومحاضر