د. ياسر عبد التواب

تراسلتُ معه بالهاتف كعادتي حين أتفقد الأصدقاء؛ كان شديد المرح والتفاؤل طموحًا، محبًّا للحياة،  رد بصورة (فوتغرافية) بليغة حاسمة، وصادمة!

صورته وهو عاري الجذع، يجلس في مشفًى، ويضع جهاز التنفس (الأكسجين)!

**

فجأة أصبت بكورونا، وَهَنت قواي، وارتفعت حرارتي وفتر جهدي وضاق صدري وخذلني جسدي وتركني طريح الفراش، ذاهب الفكر العميق، والرأي الزنيق، اجتمعت تلك علي واتصلت اتصال السعود 

أضحى كل شيء شاقا ..فحرارتي المرتفعة تغبش رؤيتي وتزيد وَهَني ..وصار مضغ الطعام صعبا بل  لا أشتهيه ولا أطيقه …شُرب الماء أغص به وزوري محتقن..النوم لا يريح إن تقلبت على جنبٍ يؤلمني بعد هنيهة وإن استلقيت على ظهري يأتيني سعال ..وتمر الساعات طوالا على هذا الحال

أنا الذي ظللتُ سنتين تقريبا مُذ حل الأمر لا أعبأ به، ولا أحترز منه! ربما كنت الوحيد بين من أعرفهم  الذين لم توقفهم إجراءات، ولم تتحكم فيهم  متطلبات!

وحتى في أيام الحظر بأنواعها كنت أمارس حياتي بشكل طبيعي!

كنتُ أحتال لأخرج ولو حول المنزل: أرى الحياة، وأجدد النشاط، وأشجع غيري بما أقوم به! حيث أتخوف من اعتياد المجتمع على ذلك التراخي فيكون له ما بعده!

لو نفّـذتُ هذا الحظر بحذافيره لخارت قواي، ولحبطت نفسي ولعددته  سجنا أجبر عليه، ولا أحبه ولا أرضخ له ما استطعت!

وأنا أحب الحرية وأعتادها لأقصى درجة، ولو عُـوقبت باحتجاز ساعة؛ ولو حتى بانتظار إجراء ما،  تمر بي وكأنها دهر! فالحمد لله على نعمه علَيّ!

**

كنا وبعض الأصدقاء نجتمع وقت الحظر، ونصلي معًا، ونقيم الجمعة وقتها ونتحدث، حتى حديثنا في وقت الحظر له لذته بعد حرمان!

وبخلاف ذلك فمتعتي دومًا بأن أذهب لعملي – ولو وحدي – وأجلس إلى مكتبي، وأمارس مهامي – وهي لله الحمد كثيرة ومتنوعة – وقد فعلت ذلك في كثير من الأيام!

لا أدري ما الارتباط بين شعوري بالحياة، وبين ممارسة العمل، والكتابة، والتخطيط، والتنفيذ! مع أن بالإمكان ممارسة كل مهامي من المنزل، لكني اعتدت هذا وأحببته!

بالطبع كوني إعلاميًّا جعل بإمكاني استخراج تصريح من المؤسسة التي  أعمل بها – وفي الواقع أشرف عليها – أوقعها باسمي؛ زاعمًا لنفسي أن العمل بحاجة لحركتي الدائبة نحو اثنتي عشرة ساعة يوميًّا، وكانت مبالغة!

**

أيام وذكريات مرت، ومواقف وطرائف، واستغراب من المعارف والمحبين!

–   لم لا تهدأ قليلًا؟ لم لا تذعن للأوامر!

–  الأوامر؟ وهل نعاني من كل ما تعانيه الأمة إلابالرضوخ للأوامر من غير تعقل؟

كأنني أحاكم النظام الإنساني المستقر، من خلال ذلك الحدث، وأتمرد عليه، وأشك فيه، وأتردد مع المترددين، وأنتقد بين المنتقدين!

وقناعتي لم تتزعزع بأن ثمت أياديَ خفية وراء هذا الأمر!

من يتربحون منه لا يخفون، وهم  كثيرون، سياسيا واقتصاديا؛ بل وحتى اجتماعيا؛ حين يعيدون صياغة الرضوخ والإذعان بشكل يؤثر على شخصيات البشر، ويعيد صياغة العلاقات بينهم في أحوالهم الإنسانية من جهة، وبينهم وبين الحكومات والأنظمة من جهة أخرى!

**

لا تحدثني عن أن العدوى ليست وهمًا؛ فأنا أقر بذلك ولكن من قال إن وجود المشكلة بالأساس يزيل عن المتهمين التورط في التعمد والأذى!؟

كل من مات، ومن يعاني، ومن يبتلى بفقد حبيب، أو تأثر صحة، أو نقص مال، أو ضيق رزق؛ سيتعلقون برقاب أولئكم يوم القيامة، وربما يعجل ربي الأمر، فينتقم من الظالمين، ويمن الله على المستضعفين، ويمكن لهم، ويري هؤلاء منهم ما كانوا يحذرون! فللخلق رب يعلم ويقدر ويرحم، ولئن كنا جميعًا في ميزان الاختبار وبوتقة الأحداث؛ فإن الله يرى ولا يخرج شيء عن قدره وقدرته!

**

خطوات وئيدة تتحرك بها العجوز لتعد طعاما زاهدة فيه ولا بد منه …مُذ مات أنيسها وواروه التراب وبكته وواسوها .. وهي وحيدة متعبة مريضة ولم تكن قبل بهذا السوء

وما زاد الأمر شدة هو تلك الأعراض اتي أورثها إياها قبل وفاته ..تكسر الجسد وكأنما عظامها آيلة للسقوط …تداعي القوة ..فقدان الشهية ..جفاف الحلق..حتى حواسها الخمس تخذلها ..لا شمّ ولا تذوق ..وتسمع قليلا …وترى غبشا ..ولا تكاد تحس بأناملها ..وتكح طيلة الوقت

الأبناء ؟

كل منشغل بحاله ..يكتفون بالسؤال هاتفيا وكأنهم يخافون العدوى من الاتصال فيخففونه قدر استطاعتهم .. لولا الجارة الطيبة بجوارها تقضي حوائجها لانتهى أمرها

الطعام يغلي وقد تركته وانشغلت ..والدخان يتصاعد ..ويتلوى

والجارة تطرق الباب ..وهى راقدة على فراشها

**

قديمًا قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عدوى ولا طيرة، فإن العدوى لا تصيب أحدًا إلا بإذن الله تعالى، وإن المريض يخالط الأصحاء فمنهم من يصيبه المرض، ومنهم من لا يتأثر بما أودع الله تعالى في خلقه من مناعة، وما يصبهم من أقدار! وهكذا ظللت حرًّا طليقًا، لم أجبَر على جلوس ولم أعانِ ندرة الحركة، وأدواء التبلد، ولا قلة الحيلة!

**

في وقت قريب سابق كان زميل لي أصيب بهذا الداء، وظلت الأخبار تتردد عن معاناته وأسرته، وعن دخوله للمشفى، وخضوعه للعلاج، وخاصة ما يتعلق بالرئتين! وكانت شدة جهيدة!

لكنه – وبعد عناء – تعافى، وجلست إليه وكان مرهقًا بعد تلك الأيام الشاقة، لكنه تخطى المشكلة ولله الحمد، فعاد وكأنما نشط من عقال!

 **

اسم صاحبي المتفائل د. سامي، تزاملنا سبعة أشهر، نلتقي يوميًّا لنضبط تأسيس أكاديمية كان شريكًا ومديرًا لها، فعاشرته، ورأيته متواضعًا لطيفًا كريمًا، يرسم الابتسامة على شفاه الآخرين، ويحوطهم بعنايته، ويظهر كرمًا في الحفاوة بالضيوف وإطعامهم!

ثم فجأة صار الاطمئنان عليه صعبًا، والزيارة له ممنوعة، وكنت أنتظر متى يسمحون بها لأراه!

قلبي معك يا صديقي، ترى ماذا تفعل الآن؟ وكيف أحوالك؟ كيف تشعر؟ وفيم تفكر؟

**

ذهبت للمشفى من أجل المراجعة والاطمئنان، وأخضعوني للتحاليل، ولأشعة على الصدر، وقياس لمستوى الأكسجين في الجسم، لينقلب كل شيء فجأة!

المعدلات غير مرضية، ولا بد من الاحتفاظ بي؛ من أجل ضبطها!

وجدتُ نفسي فجأة في سيارة الإسعاف تنقلني إلى الفرع الأكبر، وأنا الذي ظننت الأمر مجرد استضافة لوقت بسيط، أو احتجازًا بالغرف العادية!

وطالت الرحلة وأنا مستلق بجسدي المنهك بالداخل، أرى كل ذلك مبالغة، فالأمر لا يستأهل كل هذا وأنا الحمد لله بخير!

 وأخيرًا وصلنا؛ لكنني استغربت من توجههم للعناية الفائقة!

**

هنالك خارج الزمان والمكان كأنما تجلس فوق السحاب؛ ترى وكأنك في غمام: المكان دون تفاصيل، وتفاجأ بمجموعة من الممرضين والممرضات – ويا لحرجي-  ينكفئون عليك، ويتلقفونك كزبانية جحيم!

جردوني من ملابسي كلها دون تردد – حتى من الممرضات – وأنا مستغرب: ماذا تفعلون؟!

 ومن اليمين هناك من يدس في وريدي تلك الأنبوبة متعددة الاستخدام، وعن يساري – سامحه الله – هناك من يدس ………… قسطرة مؤلمة جدًّا!

وأغضب من كل هذا وأتفاجأ

ما هذا ؟ ماذا تفعلون؟ لم أتفق على هذا ولم أتوقعه؟!

انبرت ممرضة جريئة، وقالت بالتركية: صه (سُوس)!

هل هي اخرس أو اسكت أو صمتًا؟ لا تسعفني اللغة!

لم يعجبني هذا، ورددت عليها بحنق: سُوس، سُوس، أشير لها في حنق وأشير إليهم جميعًا! وأنا أشد يدي وأقاوم، وهم يبسطونها غصبًا عني!

– أريد أن أعود لبيتي، لا أريدكم! اتركوني!

تركوني فعلًا؛ لكن بعدما حقنوني وقيدوني، وأجروا تحليلات وقياسات، وفحوصات، كما شاء لهم الهوى، ثم انصرفوا وسط ذهولي، وضيق نفسي، وانكساري بشعوري بالانتهاك والإجبار!

ما هذا؟ ألم أكن سأحجز من أجل الأدوية ومراجعات الأطباء؟ فلمَ فعلوا هذا بي؟

وهل من حقهم احتجازي وأنا بعد راشدٌ واعٍ؟ وفي رأسي من العقل ما يسمح لي بالاعتراض والتفنيد، فلمَ لا يعبؤون بي؟!

هل من حق مثل هذه الجهات قصرك على ما يرونه من مصلحتك؟

وما وجه اعتراضك هنا؟

ينسحب هذا كذلك على ما يفعله الأقوياء والساسة؛ حين يأخذون بمجتمعاتهم إلى انقلابات دينية واجتماعية، وإلى نظم قانونية وإدارية دون مشورة حقيقية من أصحاب المصلحة، أو من تتعلق أمورهم بالشأن!

رباه هذا يفعله من يدّعي أنه يساعدك! فكيف بمن يفعل أكثر من هذا ممن يعذبك عمدًا؟ وكيف بمن يقهر من يعذب دون أمل من شفقة أو رعاية لمصلحة؛ ممن ابتلوا بزبانية السجون عبر العالم!

**

 الشاب الذي يعدونه لمسؤولية كبيرة في البلد يحل ضيفا على القناة الرسمية ويجلس المذيع محاولا إظهار رباطة جأشه بعد تلقيه تعليمات الوفد المرافق لسيادته فيما يسأله وما يجتنبه، حتى صار الحوار كأنه سيناريو مرسوما، وليس حوارا حرا يترك لتداعي الأفكار

وفي سؤاله عن الحالة الدينية للمجتمع الذي اعتاد على المحافظة: ماذا سيفعل مع أفكاره المنفتحة على الغرب 

يتلقى الضيف السؤال ليقول بحزم تدرب عليه: لقد كان مجتمعنا مقيدا بأحوال فرضت عليه مع ظروف معينة ..ويرفع صوته مضيفا: وآن أوان التخلص منها الآن وفورا 

ليته تحدث عن التقدم التقني أو التعليم أو رعاية العاطلين والفقراء ..أو أي شيء وإنما انصب حديثه عن التزمت في مقابل الترفيه

ومن وراء الكواليس يصفق له مرافقوه ..ومن أمام الشاشات يغتم متابعوه

**

ربما لو بانت لي الأمور قبل وقوعها!  لو وضّحوا لي قبل الدخول ما سيفعلون لكان تقبلي لهذا

 أسرع؛ بيد أنهم لم يتكلموا معي، وحالت اللغة بيني وبين التفاهم معهم؛ لعلي كنت أقنعهم بتركي!

أظن أن هناك خللًا مهنيًّا في مثل هذه الحالات!

نما في قلبي شك وغيظ شديدان؛ بأن الأهل هم الذين رتبوا ذلك الأمر – بصورته تلك – تحاشيا لعنادي ورفضي!

**

تعجبني صراحة الأطباء حين يصفون لمرضاهم – بتحضر- الحالة ومتعلقاتها، وماذا لو أهملت علاجها، وما الخطوات الواجب ابتاعها، وماذا بعد؟ ليكون الجميع على بينة من أمره!

**

الوقت هنا الآن يمر ببطء غير عادي، الساعة هنا ألف دقيقة، وأنا بعد لم أفق من ذهولي، ولم أتقبل ولم أرض!

ساعات مرت، ولا شيء أفعله سوى متابعة حركة الممرضين، والساعة المعلقة بغرفة المراقبة أمامي، وهي تتشوش علي لبعدها، ولانعكاس الزجاج مع تحرك الدقائق؛ فلا أميزها: هل هي العاشرة أم الحادية عشرة!

الساعات التي مرت بي للآن لا تعدو بضعا منها، ومع ذلك مرت كدهر، وأنا أنتظر أن يمر طبيب أكلمه، أو مسؤول أعترض عليه وأجادله ليتركني، لكن الليل قد أطل، وما أشد ملله، وما أشق انتظار مروره؛ وكأن امرأ القيس كان معي حين قال أبياته الشهيرة:

أَلا أَيُّها اللَّيلُ الطَّويلُ أَلا انجَلي *** *** بِصُبحٍ وَما الإِصباحُ مِنكَ بِأَمثَلِ

فَيا لَكَ مِن لَيلٍ كَأَنَّ نُجومَهُ *** *** بِكُلِّ مُغارِ الفَتلِ شُدَّت بِيَذبُلِ

الليل مؤلم حقا حين تنتظر نهايته ولا تأتي

**

 أنشغلتُ بمن حولي في المكان: عن يميني كانت عجوز سمراء، وعن يساري -وقد جاء بعدي بقليل- رجل قصير القامة أصلع الرأس إلا من شعيرات! وكان في حالة سيئة؛ فأكسجينه حول الخمسين وهذا خطير جدًّا فيما علمت؛ فإذا كان يُحتجز من وصل إلى الثمانين – مثلي- في العناية؛ فما بالك بمن في مثل حاله؟!

كأني أطالع حوض سمك أحداثه قليلة، لكن هذه تسليتي حاليًّا، ولا أقبل أن يحال بيني وبين هذا بإسدال الستار أمامي أو بجواري!

وتذكرت مقولة كاتب: لو حُبس إنسان في برميل لتسلى بمطالعة حركة السحاب!

يبدو أنني في تقسيم التنمية البشرية بصري!

رأسي يكاد يتصدع، وجسدي يكاد ينهار! ليس من المرض بل من الترقب، ومع ذلك لا أزال في جلستي كفهد؛ أراقب وأتوهم أنهم سيرضخون لطلبي ومطالبتي بالانصراف وقتها، وهيهات!

**

في قاعة العناية من الداخل كنا نتمدد على عشرة أسرة على شكل قوس، وأنا قبل الأخير منها!

يبدو أنهم يقسموننا حسب الحالة فلاحظت أن آخر أربعة أسرة من ناحيتي بها أشخاص مستيقظين مثلي، لم تأخذنا الغيبوبة! ومن تشابه علاجنا فهمت أننا مرضى الكورونا!

أما في الطرف الآخر فكان أربعة أشخاص عن الوعي غائبون!

**

مساحة الحرية الوحيدة لكل شخص منا هي هذا السرير، وما يرتبط به من الخراطيم والأنابيب والأجهزة، التي تعرقل أي سبيل للحركة، وتزيد من التحكم فينا، كيف أصلي هنا؟ فقط على السرير، بدون معرفة للقبلة، ولا تيمم إلا على حافة السرير، ما زاد من سخطي ونقمتي!

وبعد ساعات من الإرهاق والتذمر والانتظار زاد عزمي على الرحيل! سمّه الهروب، سمّه السعي للنجاة من خطر مجهول! سمّه حاجة لأكون بين أهلي وصحبي! لكن كيف السبيل؟

**

نظرتُ فيما يربطني بالسرير؛ لأنه العائق الأكبر والأهم: كانت المحاليل المعلقة قد نفدت بعدما نفذت لجسدي، فحللت مسارها، وكان كالمسمار، له تدرّج، ثم حزام مثل جهاز قياس الضغط حول معصمي، فحللته! وكان ثم ” كابل” معلق بإصبعي فشددته، وبقيت القسطرة، ولم أدر كيف أفعل بها؟ نظرت إلى موضع تعليقها بالأسفل، ولم أجد بدًّا أن أحملها، ولعلهم حين يرون إصراري على الخروج لا محالة ينزعونها!

لكن؛ ماذا عن جسدي العاري؟ لففت عليه ملاءة كإحرام الحجيج! وبقيت الخطوات التالية:

قررتُ أن أتحرك فأدخل عليهم الباب بسرعة، وأجلس لهم معترضًا غرفة التحكم؛ وإما أن يتركوني أو أظل هكذا، فأجعل من بالمكان يرتبكون ويضطربون؛ فإما أن يفتحوا لي الباب الرئيسي فأخرج منه أيضا أو يجدوا لي حلًّا! فقط عليهم أن يخرجوني!

نفس وجهات نظرنا إبان الثورات حين ظننا بأن أصواتنا لو علت ورأوا حشودنا، فسيرضخون لنا!

هذا يحدث حين تتحرك حشود لا قبل لهم بها، ولكننا وقتها نسينا السلطات والقوة والقهر، والأسلحة!

وأنى لي بحشد هنا بين أولئك المغيبين!

نزلت بالفعل من السرير، والتقطت جراب القسطرة وحررته، وبينما أنتهي منه وأقف لأتحرك، إذا باثنين منهم قد وقفا عند رأسي، وبحزم سألوني ثم نهروني، وحملوني إلى مكاني متسائلين في غضب وتوتر: ماذا تفعل؟ ولماذا؟

وأعادوا كل ما نزعته إلى مكانه، وتحولوا عني بعد تحذيرات، يا لي من تعس!

**

فشلت المحاولة، فمتى أكررها وأتخطى العراقيل؟ هل يطفئون تلك الأنوار لتسهل الهمة؟

الحقيقة أنهم لا يطفئونها كلية، فقط يخففون منها بين منتصف الليل لثلاث أو أربع ساعات! وكانت هذه من مشاكلي التي حالت بيني وبين النوم طيلة فترة إقامتي! ولم أدر لمَ يجعلون المصباح  مضاءً أعلاي! أليؤذيني سطوعه كلما نظرت إليه؟ وأنا مستلق على ظهري! هل أشرار لهذه الدرجة؟

**

بعدما هدأتُ قليلا  في اليوم التالي – ولا أزال ممتعضًا حانقًا – إذا برئيس هيئة التمريض وقتها يدنو مني ويكلمني بإنجليزية مقبولة وبود صادق:

–  صدقني هذا أمثل شيء لحالتك! نحن هنا نعتني بك!

– لا أريد عنايتكم؛ فدعني أخرج  من فضلك!

– لا يمكنك ذلك حاليًّا!

– ولمَ لا؟ إن أردتم فسأوقع لك أني أخرج على مسؤوليتي، وأخليكم من أية تبعة!

–  أنت بين يدينا الآن، ونحن وقعنا على استلامك! حتى ملابسك ومحفظتك وهاتفك استلمناها أمانة، وأعدناها لأسرتك!

–  آه! الآن بالفعل تكامل عجزي وتعجيزي! وكأنها مؤامرة حتى إن خرجت من عندهم هنا فلن أجد “ملابس” ولا أموالًا لأتحرك؛ وفي غفلة من أهلي ومن نفسي يتحكمون بي هنا!

وإن مت كتبوا ذلك في تقريرهم، وإن حييت – لو حييت – أعادوني إليهم! كطفل لم يأنسوا رشده يتحكم فيه أولياؤه!

– رددت: أليس من حقي أن أنصرف دون تلقي العلاج؟

بواقعية وضع يده على كتفي: وقال: صدقني؛ لو تركناك اليوم ستموت بعد يومين بالضبط، فهل ترغب أن تموت!

ترددت واستحضرت التفاؤل: نعم دعني أخرج فقط! لا أريد البقاء معكم!

ربت على كتفي، ولم يتكلم، وانصرف!

**

الطبيب المناوب أمرني أن أستلقي على بطني فإن هذا يحسن التنفس ..

أواه كم هذا شاق يؤلم ويمنعني من الرؤية والمراقبة ولم أطقه لساعة كنت أتلفت فيها حتى آلمتني رقبتي

هل هذا علاج أم عقاب ؟ شيء مزعج ومؤلم للبطن وهو يجُبّ عني الرؤية وهي سلواي هنا

كنت أيضا مشاكسا في الالتزام – رغما عني لا أطيق –  وصارت نقطة يلومني عليها الفريق  كل حين …يا للغم والألم

ووصلت لحل وسط بالنوم على جنب مع ميل قليل حتى عودتهم على التغاضي من طول التمرد

××

ما الذي أورثني هذا الجزع بهذه الطريقة؟

ببساطة صورة صديقي سامي كانت ماثلة أمامي!

أنا الآن بنفس هيئته! عاري الجزع  مثل صورته، أرتدي قناع الأكسجين كحاله! مقطوع الصلة

 بالناس، كما انقطعت صلته!

وهو توفي بعدها بأربعة أيام!

نعم مات الرجل المتفائل لطيف المعشر!

لم أذكر ذلك آنفا لك لكن هذا ما حدث، وهو ما قفز بالمقارنة إلى عقلي وسيطر علي!

حين تراسلتُ معه، وحين أرسل صورته، كان هذا الثلاثاء، ثم فجر الأحد وصلني نعيه، وذهبت صباحا لتشييعه للمقبرة؛ فيا للأسى!

خطفه الموت حقًّا! وكان هذا هاجسي مذ أصبت بالكورونا، وحين وجدت كل هذا التكسير بالجسد، والإجهاد بالتفكير، والارتفاع بالحرارة، خشيت أن أموت في عدة أيام مثله!

والآن حين وصلت لتلك الحالة كنت في نفس هيئته!

والإنسان يقيس: نفس الحالة – نفس السن – نفس الصورة، إذن: نفس النتيجة!

بقيت لي الأيام الأربعة إذن!

وسُقط في يدي: فأنا وحيد، مرهق، مشوش، بعيد عن أهلي وأحبابي، ممنوع من الاتصال بهم، وأنتظر الموت، بعيدًا نائيًا منقطعًا عن كل ما أريد أن أطمئن إليه، وأن أعهد به!

أريد ساعة أكتب فيها رسائل، وأتصل بأرحامي، وأعهد إليهم، أو أذكّر بديوني، وأوصي وصية أخيرة

يا الله؟ أحقًّا حانت ساعتي؟ هل فصمتُ عن الدنيا، وأخرجت منها رغم كثرة المشاغل والمهام والهموم؟!

هل انتهى كل شيء؛ فلا آمال، ولا أحلام، ولا طموحات، ولا حياة؟!

أكل شيء قد انقطع، وتوقف عند هذا الحد؟

أستطوَى صحيفتي، ويختم عليها، وتنصرف من هنا  إلى مصيرك؛ كما فعل بغيرك!

قُضيَ الأمر! وستكون رقمًا في إحصاءات الوفيات لهذا اليوم!

**

رجل من أقصى الغرفة يعدونه للخروج …هذا ما فهمته من الاستعدادات ورفع الأجهزة والمحاليل فهو بعيد …وتصورت غبطته وتمنيت أن أخرج على إثره

ترى هل سيخرج مباشرة أم سينتقل للحجرات العادية ..لحظة ..إن الذي يحرك به السرير قام بتغطية وجهه

الآن عرفت أين سيذهبون به

**

يا للحسرة على وقت ضاع دون استفادة، وعلى جهود كانت خبط عشواء، وعلى آمال أحرقت جهودًا دون فائدة، وعلى سعيٍ للدنيا وللمال! ليتني لم أضيع فيه الوقت!

وتذكرتُ صلاتي وقراءتي وتقصيري في العبادات والطاعات والسنن والأذكار…ليتني اجتهدت

يا حسرتا على ما كان معلقًا، أتراخى في إنجازه! ترى هل سيتاح لي أن أسند إنجازه لأحد؟

ومن يهتم به من بعدي؟ ومن يتبنى ما كنت أفكر فيه وأنجزه؟ ومن يجبر تقصيري! 

يا حسرة على كل هذا،  وعلي!

**

ساعة فقط أو ساعتين! اتركوني لأرتب بعض ما سأتركه!

ما هذه الغفلة وكيف ابتليت بها؟

ونمت كمدًا

ورأيتي في المنام أصلي، وأرتدي البياض بين جماعة جمعة في مسجد، ذكرني بمصر من قديم، وكل رواده يرتدون الأبيض مثلي، وشكلهم بهي مهيب!

فهل تُنعى لي نفسي؟

ورأيت ضوءًا من التفاؤل بعد تأمل؛ بأنه – وإن كانت تلك أيامي الأخيرة – ففي النهاية لدي فرصة ساعات أتفرغ فيها للتوبة؛ ولعل من الحسن أني لم أسبب لأهلي ما يضيق عليهم من شدة المرض، وطول المقام عليه!

**

استغربت أن تلك الأيام الأربعة مرت وأنا أتحسن، صحيح لا أنام تقريبًا لكن المعدلات تتحسن، ومع ذلك فلا زلت أشير للطبيب كلما مر بإشارات تفهمه:  أريد أن أخرج!

كان يمر يوميا بحدود التاسعة صباحًا، وينصرف بعد قليل -ربما دقائق- فأظل ساهرًا أنتظره وأخشى أن أغفو وأشير له بيدي أن (المونيتور) قراءته جيدة وأطلب الإذن بالخروج فيتجاهلني، وكأنه لم يرني!

كنت أعرف أنني أبدو لهم شخصًا غير متزن، وربما مجنون لا هم له إلا الإشارة إليهم؛ لكن ما باليد حيلة، وليس لي من أمل إلا أن يكتبوا لي تصريحًا بالخروج!

**

يئست من استجابتهم واعتدت قليلًا – أو قل تأقلمت – فكففت أن أبدو كأهوج مندفع، وفي نفس الوقت أدخلوا لي هاتفي خلسة! وتمكنت في خمس دقائق سمحوا لي بها من إجراء مكالمات ورسائل للأهل وبعض الأصدقاء!

 حتى أمر الدَّين عهدت به لأحد إخواني من ذوي اليسار ليتولاه؛ وكان ذا شهامة، فلم يخذلني!

وكانت تلك الدقائق مع الهاتف – وقد كرروها لاحقًا – هي رافعة اليوم، التي أنتظرها، وأعيش على ذكراها لليوم التالي!

وتذكرت حال المساجين أيضًا في تداول الهواتف خلسة وبرشوة!

وتذكرت موقفًا نبيلًا راقيًا؛ حين اكتُشف هاتف مع أحد إخواننا المساجين، وكان الرجل ضعيف البنية، لا يطيق العقاب الشديد الذي يتعرض له من يقع في هذا (الجرم) فينبري زميل له مسجون بادعاء صاحب الهاتف؛ ليكفيه شر انتقامهم منه، وقد كان! ويا له من موقف نبيل!

**

الطعام …كلمة كنت نسيتها ..كنت أطعم بزهد كبير ..أشرب بعض الحليب وتمرات ..ربما شيئا من الخبز والجبن والشوربة ..,أكتفي بذلك ..وكانت إحدى العاملات تراني جالسا، وترى المصحف أمامي وسبحة، فتعدّني من أولياء الله الصالحين.. لستُ كذلك ..أنكِ واهمة !

تأتي جواري ملتمسة البركة وتسألني بالإشارة الدعاء لها ولأسرتها وتشير بطريقة الدائرية تقصد للجميع …

يا لك من طيبة.. مثلك يستمطر به الرحمات

كانت تشجعني على الطعام فإن زهدتُ فيه تأخذه مني وتعطيه للمرضى الآخرين

الآن كأنما تذكرت الطعام ..ولاحظت اهتمامي به حتى إنني كنت أنهي ما يعطونني من طعام المشفى وأتبعه بما يرسلونه لي من الخارج ..وأبيت بعدها جائعا !

**

كان الرجل الراقد جواري يتحسن حينًا، ويسوء حاله حينًا! وكنت أدعو له شفقة، وأنانية! رجاء أن يؤمن خلفي الملك، فأنال من بركة دعائه! وانهالت الرسائل على هاتفي المسرب أرى بعضها ولا أتمكن من قراءتها لضيق الوقت!

تعافى أحد المرضى، وارتدى ملابسه، وانصرف!

المرأة جواري تتذبذب صمتًا وتبرمًا، والرجل من الناحية الأخرى أجبروه على النوم على بطنه ووضعوا له جهاز تنفس يشبه غسالة الملابس، ذا خراطيم كبيرة، وهو نفس ما فعلوه بالمرأة لاحقًا وكان يبدو جهازًا شاقا وكأنه أقصى تصرف ممكن للفريق ضخ الأكسجين به، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه  ولذا فقد كان الرجل يصيح توسلًا لينزعوه عنه، مسكين!

لاحظت أن المرضى المنومين يتناقص عددهم! ترى ماذا حدث لهم!؟

**

كانت شاقة تلك الليلة، ولم أدر إلا وقد شدوا الستائر حول المرأة، وسمعت أصواتا للممرضين، وأجهزة  تزمجر، وأصوات تدليك أشبه بضرب الأكف على جسد!

 وفي الصباح، وجدت العاملة وقد كشفت الستارة بيننا فإذا السرير فارغ تنظفه! وفهمت الرسالة! وداعًا سيدتي، كانوا ينقذونك لكن قدر الله نفذ! وفهمت وقتها غفلتي حين ناديت ممرضًا اعتدت أن يلاطفني ويكلمني بعربية ركيكة، وقد لاحظ تشابه اسم جدي مع اسمه فكان يناديني به! وكان يسارع لخدمتي؛ لذا فهمت وقتها وجومه في وجهي بعدما توفت العجوز، وهم يحاولون إنقاذها، كم يتعبون وكم حقا يهيئ الله تعالى هؤلاء العاملين والأطباء ليخدموننا ليل نهار، ويتحملوا منا كل هذا، حقًّا (لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)”

**

انتبهت بعدها لأعداد من ينقصون منا، وأنا أرتجف فرقًا من هذا، كما أرتجف من أجواء البرودة التي يضعوننا فيها كأنما يهيئوننا للرقاد في ثلاجات الموتى!

وقد أتى علينا وقت وليس في تلك القاعة إلا أنا وجاري عن يساري، وشخصان كانا مغيبين في البداية، ولك أن تخمن أين ذهب الباقون!

**

 مرت أيام أُخر، وأنا لا أقدر على النوم! جهازي العصبي يكاد يخذلني! ولكني في تقدم رغم كل شيء؛ فلم أفقد وعيي، ولم يستخدموا معي أجهزة أكثر تعقيدًا وشدة كالتي علقوها للمرأة، وللرجل بجواري الذي ظل يصرخ لينزعوها، لكنهم – ليضمنوا عدم نزعها – ربطوا يديه عن يمين وشمال، فزادوه حنقًا وكمدًا وحزنًا، وزدت من دعائي له عسى الملائكة تؤمن خلفي لننجو حميعا!

**

 بعد كل ذلك تحسنتُ – تخيل هذا – بعدما يئستُ، وتهيأتُ للرحيل، وحاولتُ جهدي أن أسد ديوني، وأن أحسن فيما بقي، وبعدما فزع الأهل والأحباب والأصدقاء!

وكان منهم  السؤال والدعاء، فاستجاب لهم ربي، وحاطوني بودٍّ ظننته قد فتر؛ فإذا به يتجدد جزعًا وأصالة فشكر الله للجميع!

شعرتُ كأني غُسلت من داخلي وولدتُ من جديد ..متأملا في قدرة ربي، وكمال ذلنا لإرادته؛ فهل نحقق متطلبات العبادة بالرضى والتسليم وكمال الحب؟

كتاب الله المنظور وقدرته وحكمته تجر الغافل جرًّا ليفيق لو تأمل وأزاح الران عن فطرته!  فسبحانك يا رب أعني ووفقني للإحسان والهمة

نقلوني لغرفة عادية بعد تلك الأيام الشاقة التي اختلط ليلها بنهارها، وترقبها بآماله وآلامها، ولأرى النور بعدها، وأغادر المستشفى كصغير تبهره الحياة، وصخبها من حوله، فالحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، واللهم أعنّي أن أحسن فيما بقي فلا أكون كمن عاهد الله فلما آتاه من فضله نسي وعاد وتهاون

**

أحببتُ أن أسجل تلك اللحظات لأتذكرها لاحقا، ولأسجل نِعم الله علينا بالصحة والعافية، ولتكون عبرةً  لمن يقرأها

**