حمل الفارون من مذبحة الصليبيين في مدينة القدس أشلاء الأطفال والشيوخ والنساء استعطافا واستثارة لحمية حكام المسلمين.. فلامست الاستغاثات أسماعهم.. ولكنها لم تلامس نخوة المعتصم!! بل وفي عام المأساة المروعة.. قامت حرب دامت خمس سنوات.. أَحرق خلالها الأخضر واليابس بين السلاطين الثلاثة الأشقاء: محمد وسنجر وبركياروق.. أبناء السلطان ملكشاه! جو قاتم يحلق في سمائه قول الشاعر:

 

أحل الكفر بالإسلام ضيما

 يطول لأجل الدين له النحيب

~~~

فحق ضائع وحمي مستباح

وسيف قاطع ودم صبيب..

~~~

وكم من مسلم أمسي سليبا

ومسلمة لها حرم سليب

~~~

أمور لو تأملهن طفل

لخط في عوارضه المشيب

~~~

أتسبي المسلمات بكل ثغر

وعيش المسلمين إذاَ يطيب

~~~

فقل لذوي البصائر حيث كانوا

أجيبوا داعي الله ويحكم أجيبوا!

صورة مدلهمة السواد.. ولكن يأبي الله تبارك وتعالي إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون والمشركون.. ولو كره العملاء والأذناب والمنافقون…

 

خرج النور والأمل من إمارة الموصل حيث ذلكم الأمير الصالح عماد الدين زنكي.. والي الموصل وحلب.. أراد رحمه الله إصلاح الأمور بين السلاجقة والعباسيين دون جدوي فانصرف إلي إعداد القوة… وعمل علي ضم ممالك الشام إلي إمارته لتوسيع جبهة المقاومة أمام الصليبيين.

 

ثم سار بجيشه إلي أولي إمارات الصليبيين (إمارة الرها) ففتحها بعد حصار دام ثمانية وعشرين يوما (فتحها في السادس والعشرين من جمادي الآخرة عام 539 من الهجرة) ثم شرع يفتح الحصون والقلاع الصليبية بالشام.. فدسوا عليه بعض خدمه.. فقتلوه وهو نائم رحمه الله (وذلك في الخامس من ربيع الآخر عام 541 من الهجرة)!!

 

وكان ابنه الأصغر واليا له علي حلب.. ذلك الفتي الذي ندر في تاريخ الإسلام وجود أمثاله.. حتى لقد قال المؤرخون بشأنه: نظرنا في سير العمال والولاة والأمراء.. فما رأينا أحدا بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أفضل سيرة من (ذلك الفتي)!!.. إنه.. نور الدين محمود زنكي.. كان رحمه الله رجلا صالحا تقيا.. أحيا الله به الأمة من موات فاستيقظت من رقدتها وأفاقت من غفوتها.

 

بدأ رحمه الله خطوات الإصلاح.. بإصلاح عقائد الناس مما ران عليها من غبش وانحراف.. فكمال الأمة وعافيتها.. في صلاح عقيدتها.. استقدم العلماء وأكرمهم حتى صارت إمارته قبلة للعلماء.. كذلك فقد اهتم ببناء المزيد من المساجد.. بني مئات المساجد وعين بها أكفأ الخطباء من أهل السنة حتى يواجه التيار الشيعي المنحرف وبدع الفاطميين الضالة.

 

لقد كان رحمه الله يؤمن أن المسجد موقع متقدم في جهاد الأمة.. كذلك فقد أنشأ المدارس التي تدرس القرآن والحديث والفقه (في إحدى هذه المدارس درس وتخرج تلميذه.. صلاح الدين الأيوبي!) وبرغم أنه كان (حنفي المذهب) إلا أنه قد أمر بتدريس مذاهب الأئمة الأعلام كلها ((وذلك أمر نادر في زمانه !!!)).

 

وكان يقول: ما أردت بإنشاء المدارس إلا نشر العلم ودحض البدع وإظهار الدين بهذه البلاد.. كذلك فقد عمل رحمه الله علي إحياء روح الجهاد في الأمة فأنشأ الساحات العامة لتدريب الصبية والشباب والرجال علي فنون الرماية والفروسية والقتال.. وله كتاب في فنون الحرب والقتال! وكان يدعو الله بصدق أن يبلغه الشهادة.. حتى لقبوه (بالشهيد) فكان هذا أحب الألقاب إلي نفسه..

 

كان رحمه الله يشارك الجند لعب الكرة من فوق صهوة جواده (البولو).. فعاتبه بعض العلماء في ذلك.. فقال معتذرا: والله ما أردت اللعب بقصد اللعب أو الترف وإنما بقصد إبقاء الخيل علي أعلي درجة من القدرة علي تغيير الحركة والاتجاه.. يقصد (الليونة والمرونة)..

 

كان رحمه الله عفيف اليد عن بيت مال المسلمين.. حتى لقد ذكر المؤرخون أن بيته كان أفقر بيت في حلب كلها!! بل أعجب من ذلك.. فلم يكن له سوي بيت واحد.. وكان أمراء عصره تُخصص لهم منازل بالمدن المختلفة (استراحات بالمفهوم الحديث) حتى يباشروا أعمالهم.. أما نور الدين فقد رفض ذلك.. وكان إذا نزل مدينة خاضعة لسلطانه فإنه لا ينام إلا علي الأرض في إحدى قلاعها!

 

من بديع ما يذكره المؤرخون أن زوجته (خاتون عصمت الدين) أرسلت إليه شقيقها (من الرضاع) حتى يحدثه في زيادة النفقة (يزيد مصروفه لمواجهة غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار!) فقال له نور الدين: من أين أعطيها؟! والله لا أخوض النار في هواها.. إن كانت تظن أن ما بيدي من مال المسلمين فهو لي، فبئس الظن ما ظنت فإنما أنا خازن.. ثم قال له: لي ثلاثة دكاكين كنت قد اشتريتها من حصيلتي من الغنائم.. فإني أهبها إياها!

 

حرص رحمه الله علي إقامة العدل بين الرعية.. فأنشأ المحاكم لمقاضاة كبار رجال الدولة.. وكان يخصص بعض الأوقات للاستماع إلي المظالم المقدمة ضد رجال الدولة.. خشية أن يحاول أحد منهم عدم إيصالها إليه؟!!.. بل كان يسأل الناس إن كان لأحد مظلمة عنده شخصيا!

 

أنشده أبو عثمان الوسطي قصيدة يحذره فيها من المغالاة في الضرائب يقول له فيها:

 

مثِّل وقوفك أيها المغرور

يوم القيامة والسماء تمور

~~~

إن قيل نور الدين رحت مسلِّما

فاحذر بأن تبقي وما لك نور

~~~

أنهيت عن شرب الخمور وأنت في

كأس المظالم طائش مخمور

 

فبكي نور الدين وقال: والله ما فرضت الضرائب إلا لأجل شراء السلاح والعتاد ولأجل الذود عن النساء والأطفال والبلاد.. ثم أمر بإسقاط الضرائب..

 

كان رحمه الله شديد التجرد.. أبعد ما يكون عن الرياء والسمعة.. بلغه أن الخطباء يمتدحونه ويثنون عليه من فوق المنابر فأمر بمنع ذلك وقال: أنا بخلاف ما يقولون.. أأفرح بما ليس فيَّ.. قلة عقل عظيم… ثم طلب أن يكون الدعاء له بالتوفيق والسداد وفقط!!

 

كان رجال دولته ووزرائه من أهل الصلاح والتقوى.. والكفاءة الإدارية والميدانية كذلك.. قاد بهم حركة إصلاح عظيمة.. تحررت علي إثرها خمسين مدينة وحصنا من أيدي الصليبيين.. ولقد كانت عائلة شاذي الهذباني (أسرة صلاح الدين الأيوبي) في المقدمة والطليعة المباركة من تلك الجهود الإصلاحية التي قادت إلي تحرير المقدسات تحت قيادة ذلكم الرجل المبارك والقائد الفذ… نور الدين محمود زنكي.. وإن (صلاح الدين الأيوبي) لهو حسنة واحدة من حسنات نور الدين زنكي.

 

اؤلئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

 

ومازال للحديث بقية إن شاء الله تعالي… وصل اللهم وسلم علي نبينا محمد.. وعلي آله وصحبه وسلم.

 

[ad id=’435030′]

من ممدوح المنشاوي

باحث وكاتب