في مصر التي نعرفها، عند النوازل، وحين العجز، كان الرجال يدافعون حتى الرمق الأخير، كانوا يشعرون بالعار إن طال الخزي أطراف جلابيبهم، كانوا حين يؤكدون أمرا يقولون (أحلق شاربي إن لم يحدث كذا)، كان لبس الأسود من نصيب النساء حين تحل بهن مصيبة؛ أما الآن فطفت على سطح البلاد نخبة لا شارب لها ولا لحية يتعنترون على صهوة حسابات تواصلهم داعين الشعب ذكورا وإناثا للبس الأسود مقتدين في ذلك بقشور نماذج ثورية في مجتمعات أخرى.

 

كاتب أفلام وممثل وشاعر ومجموعة من الشباب يعتبرون الاتشاح بالسواد بسالة وتسجيل موقف يعطي رسالة لم يذكروا فحواها لكل مزور، بل ويؤكدون أن التعديلات بتلك الطريقة لن تمر؟! يتعللون أن ظهور الرافضين للتعديل بأعداد كبيرة أمام العالم سيثبت له أنهم غير راضين عنها! وأسألهم أي عالم هذا؟!

 

أهو العالم الذي أذيع فض رابعة والنهضة على مرأى ومسمع منه عبر القنوات على الهواء مباشرة، ولم يحرك ساكنا، بل على العكس، فقد استقبل السفاح المجرم في قصور رئاساته ودعمه بالسلاح والمال مقابل ما يتنازل عنه من أراضينا وكنوزنا وأقواتنا وديننا. أم أنه العالم الذي تاجر بقضية قتل خاشقجي وهو يملك الدليل الدامغ على إثم قاتله، ولكنه يغض الطرف في مقابل ابتزازه وارضاخه؟! .أم يكون هو نفسه العالم الذي يسكت عن سجن مليون مسلم في معسكرات إعادة التأهيل في الصين بذريعة مكافحة الإرهاب! يبدو أن العالم الذي يقصده أصحاب “الكرافتات” ليس نفس العالم الذي يعيش قهره أصحاب الجلاليب.

 

فلنسلم جدلا بواقعية الفكرة، أليس من الخطورة على الناس أن يخرجوا بلون موحد في يوم سن له النظام أنيابه!! يستبعد أصحاب الفكرة هذه الفرضية على اعتبار أنه من غير المعقول أن يقبض النظام على كل من يرتدي اللون الأسود! ولننعش ذاكرتهم، فهذا النظام ذاته اعتقل طبيبة لأنها كانت تضع دبوس طرحة أصفر أيام فض رابعة وحكم عليها بالسجن لعامين ونصف، وسجن فتيات كن يحملن بالونات صفراء، واحتجز طفلا لامتلاكه مسطرة كتبت عليها كلمة رابعة؛ وقريبا اعتقل حوالي 250 مصفرا في حملة (اطمن انت مش لوحدك)، هذا نظام ابتدع عقوبة على المشاعر هي التعاطف مع الإخوان، هل نستبعد عليه أن يقبض على الناس في طوابير الاستفتاء بحجة أنهم يلبسون السواد!

 

إن فكرة الاتشاح بالسواد تذكرني بعملية الإضراب عن الطعام في السجون؛ هذه الأفكار لا تصلح في دول انعدم فيها الحد الأدنى للحقوق والحريات؛ بلاد تضرب فيها مواطنة بكعب بندقية بين عينيها لأنها طلبت أن ترى إذن النيابة بتفتيش منزلها، بلاد يسجن فيها محامو الدفاع مع موكليهم، بلاد يختفي الناس فيها هكذا في وضح النهار، ثم يظهرون بعد عدة شهور تصل إلى أعوام إما في أحد مباني أمن الدولة أو في مشرحة زينهم.

 

إن الوصول لهذا المستوى من المقترحات لأمر يثير الشفقة حقا؛ فبعد أعوام من البطولة في الميادين، بين كر وفر، ومظاهرات وهتافات وسلاسل بشرية، يصل بنا الحال إلى أن نُدعى لعرض أزياء ربما يلمحنا قريب أو بعيد. غريب أن يتعجب الداعون للاتشاح بالسواد من ردود متابعيهم الخائفة من الاعتقال؛ ينعتونهم بالجبن في حين أنهم طالما اتهموا خصومهم من التيار الإسلامي الذين كانوا يتخذون خطوات جادة بالنزول والمعارضة الحقيقية، بأنهم يلقون بأيديهم إلى التهلكة، وأن الداعين لنزول هؤلاء إنما يعرضونهم للخطر وأن دماءهم ستظل في أعناقهم ليحاسبوا عليها يوم القيامة، حتى أقنعوا الناس بعدم جدوى الخروج، وزرعوا في قلوبهم الرعب، حتى صاروا يقتلون ويذبحون إن لم يكن بأيدي النظام بشكل مباشر، يكون بإهماله وتقصيره بشكل غير مباشر.

 

إن أردتم أن تسجلوا موقفا واقعيا فالزموا البيوت في هذا اليوم، إن مشهد اللجان الفارغة سوى من الراقصين أقوى من لقطة هزيلة لنقاط سوداء تكثر سواد الباطل، فيثبث بها صحة نتيجة زيفها مقدما.

 

إن كنتم تبحثون عن أضعف الإيمان، أحدثكم أنا عنه؛ فركعتين في جوف الليل في كل جمعة من رمضان ندعو فيها على الظالمين، ونتضرع فيها إلى الله بإخلاص ليكشف ما بنا من ضر، لهي أمضى من السيوف في حال العجز وقلة الحيلة التي نعيشها اليوم. صرنا حتى لا نجرؤ على الدعاء على الظالمين بأمر القانون في المساجد، أي ذل هذا؟! إذن فلنفعلها في البيوت. لماذا صرنا لا نقيم وزنا للتعبد؟! ولم نستبعد الإجابة؟! قال الله تعالى “ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ”؛ أنسيتم أن الله هو الركن الشديد.