بعد الانقلاب، عاد فكر جماعة التكفير والهجرة الذي ظهر في عام 1965 عندما أودع الإخوان المسلمون السجون ولاقوا من العذاب ما تقشعر له الجلود، ليلاقي رواجا،

***

مقدمة لابد منها:

قال ابن أبي العز الحنفي: “أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه وكثر فيه الافتراق وتشتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم.. فالناس فيه على طرفين ووسط”

 

الكفر حكم شرعي يطلق على ما يخالف الإيمان، سواء كان ذلك ستر الحق بالباطل، أو التغطية، أو بعدم التصديق؛ إن الكفر بجميع أنواعه لا يخرج عن ثلاثة أصول: الأول: المكفرات الاعتقادية، الثاني: المكفرات القولية، الثالث: المكفرات العملية؛ وهناك فرق بين الحكم المطلق وهو بيان للحكم الشرعي، كأن تقول العمل أو القول الفلاني كفر، وبين الحكم على الفاعل المعين الذي لابد فيه من شروط وموانع، كأن تقول فلان كافر فقد فعل أو قال كذا من أعمال الكفر.

 

وهناك جملة من المسائل ينبغي التأكيد عليها:

 

الأولى: ما ورد من النهي عن التكفير ما رواه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما»، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا الله ولا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل»(بعمل المقصود دون الكفر).

 

الثانية: الأمر بالتثبت قبل إصدار الأحكام والتحرز من تكفير المعين إلا بعد قيام الحجة المعتبرة عليه، فتكفيره مسألة خطيرة لما يترتب عليها، فالمرء يكون به حلال الدم بعد أن كان معصوماً، وتنتفي ولايته على ذريته، وتحرم زوجته، ويمنع التوارث بينهم، ولا تجوز ذبيحته، ولا الصلاة عليه إذا مات، ولا الدفن في مقابر المسلمين، ولا الاستغفار له، وغيرها من الأحكام؛ يقول الإمام الغزالي: “ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد”؛

 

وهناك قولان مشهوران وهم روايتان عن أحمد والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم “والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وإنتفاء موانعه”.

 

الثالثة: لا يكون أمر التكفير إلا من كان من أهل العلم عالماً بالموانع والشروط، فهو حكم شرعي الأصل فيه الرجوع إلى الكتاب والسنة، فالأمر جد خطير، قد تطاول فيه المبتدئين من طلبة العلم الشرعي وغيرهم.

 

شروط التكفير:

 

ثبوت أن هذا القول أو الفعل أو الترك كفر بمقتضى دلالة الكتاب والسنة، وثبوت قيامه بذلك فلا يحل أن يرمى إنسان بالكفر لمجرد الظن، وبلوغ الحجة عليه، وانتفاء موانع التكفير في حقه، والعلم فلا بد أن يكون عالماً بمخالفته التي وجب من خلالها أطلاق حكم الكفر عليه.

 

ضوابط التكفير:

 

الإكراه، والإغلاق على المرء من شدة الفرح أو الحزن، العذر بالجهل، العذر بالخطأ، والتأويل.

 

إن المغالاة في الحكم على الإنسان بالكفر أو النفاق أو الردة أو الفسوق لا يقابلها إلا التخاذل عن إبداء الموقف الشرعي منه دون مجاملة على حساب الدين، وإن تراجع العلماء عن إظهار هؤلاء وتميعهم في الحكم عليهم أدى في النهاية إلى ظهورهم وفتنتهم العامة والسعي في خراب ودمار أمة الإسلام ؛ كما أدى التحذير المبالغ فيه من وصم الناس بالكفر إلى أن اختلط الأمر على الناس وخاصة أن العلماء تجاهلوا الحكم في أحوال أئمة المرتدين والمنافقين خوفا من بطش الحكام وقوانينهم الوضعية تارة، أو اجتنابا لجلبة هم في غنى عنها تارة أخرى، فصار أجرأهم يصف النفاق وصفا لا يناسب العصر حتى ثبت في ذهن العوام أن المنافقين كانوا أيام رسول الله فقط ولا وجود لهم في عصرنا الحديث، ولو أن منافقي العصر وجدوا من يردعهم لما تمدد أثرهم.

 

في العصر الحديث، ومنذ أن انكسرت هيبة الخلافة الإسلامية على يد محمد على في مصر، فتح هذا المنقلب الأول النار على الإسلام بمحاولاته علمنة الدولة عبر استبدال الشريعة الإسلامية بالقوانين الأوروبية، وتأسيس حكومة علمانية، وإرسال البعثات التي كانت وبالا على الثقافة والهوية الإسلامية التي تبدلت عبر نقل نظم تعليم أجنبية.

 

كان أول داع لتجديد الخطاب الديني الذي كان بداية ظهور من قدّسَهم التاريخ كأدباء ومفكرين وفلاسفة أسقطوا ثقافات غير إسلامية على واقع مسلم فخلطوا الغث بالسمين وضللوا كثيرا من الخلق. أثمرت تلك الجهود الخبيثة المفسدة مصريين مسلمين متعلمنين؛ يحبون الدين ويتمسكون به ولا يدركون ما حل بهم من مسخ لهويتهم بحيث صاروا يجهلون أموره ويتشبثون بقشوره، وتمر السنون ويعرض عليهم رئيسا ذو خلفية إسلامية فيخافون من أوهام رسختها نخب فاسدة بعد أن صدرت تاريخا إسلاميا مشوها لهم صغارا في مناهجهم التعليمية، فشبوا على كراهيته موجهين بوصلتهم نحو بلاد كانت تموج بالظلام حين كان تاريخهم يزخر بأعلام وعلماء؛ فاتهموا ذاك الرئيس بأنه يريد أن يخرجهم من دينهم الذي وجدوا عليه الآباء والأجداد.

 

صار الفكر الإسلامي غريبا في بلاده بعد عمليات التسفيه الممنهج إعلاميا والتي سخرت لها النظم الانقلابية العلمانية المتتالية المال والجهد والوقت لعلمها أن نهوض الإسلام ووصوله للحكم سيقضي على آمالها في السيطرة، لذلك استثمرت تخريبها عقول المسلمين لما يزيد عن مائتي عام لينقلب الشعب المصري المعارض منهم والمؤيد على أول لبنة لحكم إسلامي في المنطقة متمثلة في الرئيس الإسلامي الأول.

 

بعد الانقلاب، عاد فكر جماعة التكفير والهجرة الذي ظهر في عام 1965 عندما أودع الإخوان المسلمون السجون ولاقوا من العذاب ما تقشعر له الجلود، ليلاقي رواجا، ولكن هذه المرة ليس بين بعض أعضائها الذين انفصلوا عنها وفقط، بل بين بعض من أيدوا الرئيس الإسلامي وحلموا معه بتطبيق أحكام الشريعة، يحكم هؤلاء بكفر المنقلب ونظامه ومعاونيه ومؤيديه ويحتكمون إلى آيات الله البينات (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) و(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) و(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون).

 

وأقول، إن أعداء الأمة حين قرروا استبدال جيوشهم بجيوش من جلدة أهل الإسلام حرصوا على أن يبدو الأمر وكأنهم لا يطعنون في الدين، فمثلا عندما غيروا قوانين الشريعة الإسلامية لأخرى لا تحتكم لما أنزل الله، حافظوا على جملة أن (الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع) كمادة رئيسية في الدستور، وعندما عينوا حكاما للمسلمين حرصوا أن تكون ديانتهم الإسلام، ونقلوا على الهواء إقامتهم الصلاة حتى لا يتسرب الشك إلى نفوس المحكومين، وأظهروهم وهو يحتفلون معهم بمناسباتهم الدينية، ونشروا صورهم وهم يؤدون مناسك الحج والعمرة، ولم يغفلوا تشييد المساجد، ولمزيد من الحبكة يأمرون شيوخهم ليفتوا بشرعية حكم المتغلب ووجوب الولاء له والطاعة بعد أن يكونوا قد استولوا على منارة الفتوى التي اطمأن لها الناس؛ وبهذه الطريقة تسقط عن الدمى العلمانية الحاكمة تهمة الكفر أو الردة لدى العامة المغيبين علما وسياسة، فيتبعونهم خوفا من الفتن والخراب والدمار ورعبا من المجهول.

 

يتبع..