في كل عام يتجدد النقاش في هذه المسألة، ويصرّ إخواننا المخالفون على إرباك الناس وفتنة العامّة بالرأي الغريب الذي يطرحونه، فيَحْملون الناسَ على الاستمرار بالأكل بعد طلوع الفجر (بحجة أنه لم يطلع) ويأكلون هم، فيُفسدون صيامهم ويفسدون صيام الناس.

لن أعود لبحث هذا الموضوع بعدما كتبت فيه مقالة مفصَّلة مطوَّلة منذ ثلاث سنين، فمن شاء فليرجع إليها. لن أفعل ذلك، سأكتفي فقط بأن أناشد إخواني المخالفين: أقسمت عليكم بالله، كفاكم تفريقاً للأمة وفتنة للعامة، واتركوا الخوض فيما لا تحسنون.

إن الفرق بين الفجر الكاذب والفجر الصادق معروف نظرياً في الكتب، فالأول هو شعاع الضوء الذي يظهر طولياً متعامداً على الأفق كعمود البرق، والثاني يظهر مستعرضاً (ممتداً بالعرض فوق الأفق على يمين ويسار النقطة التي ستشرق منها الشمس آجلاً). هذا كله يعرفه تلاميذ المدارس، ولكن تحديد اللحظة الدقيقة التي يتحقق فيها هذا الأمر عملياً يدخل في اختصاص علماء الفلك والمساحة والجغرافيا الفلكية. فهو ليس من اختصاص الفقهاء، فضلاً عن عامة الناس، ولا يجوز أن يدّعي أحدٌ القدرةَ عليه بمجرد الصعود إلى سطح البيت أو الخروج لظاهر البلد والتحديق في أفق السماء.

دعكم من الشرح الفلكي المطوَّل للمسألة، يكفي أن تقرؤوا حديث عائشة الذي بَوَّبَ له البخاري بقوله: “باب سرعة انصراف النساء من الصبح”، بمعنى أنه وصَفَ حالتهنّ وهُنَّ خارجات من المسجد بعد إتمام الصلاة، وفيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم “صلى الصبح بغَلَس (أي بظُلمة) وانصرفَت النسوة لا يعرف بعضُهن بعضاً من الغلس”. هذه الصفة لا تتحقق إلا في الظلمة الغالبة، ولو أن النبي عليه الصلاة والسلام أخَّر الصلاة إلى إسفار (كما يقترح إخواننا المخالفون) لعرفت كل امرأة خارجة من المسجد أختَها. وقد جادلني بعض المخالفين بأن عدم المعرفة تعود إلى تغطية الوجوه، قلت: لا محل لهذا التفسير مع تصريح الراوي بالعلّة: “لا يُعرَفن من الغلس”، أي بسبب العتمة وليس بسبب آخر.

* * *

يا إيها الكرام: لقد ضربت الفوضى أطنابها في طول الثورة وعرضها حتى بلغت درجة لا تطاق، فلا تزيدوها بهذه الدعوة الغريبة. اتركوا هذه الدعوة ولا تضلّلوا العامة، وإن شئتم أن تطمئنوا فأخّروا صلاتكم، ولكن لا تُبيحوا للناس أن يستمروا بالأكل بعد سماع الأذان.

ويا أيها الناس: لا تُصغوا إلى هذه الدعوات الغريبة. اتبعوا التقويم المعتمَد الذي عشنا عليه الدهر الأطول، وإذا سمعتم صوت المؤذن فأمسكوا، ومن شاء أن يصلّي الصبح من فوره فإن صلاته صحيحة إن شاء الله، ومن أحبَّ أن يؤخرها إلى إسفارٍ فلا شيء عليه، كلا الصلاتين صحيحة، ووقت الصبح بين هذا وهذا كما جاء في حديث جبريل المشهور في باب المواقيت.

لقد شبعنا من الفوضى والتفرق والخلاف. على بعد كيلومترات قليلة إلى الشمال من الأراضي المحررة تمتد أرض واسعة يقيم فيها سبعة وسبعون مليون إنسان يُمسكون معاً ويصلّون معاً ويفطرون معاً، ونحن لا نكاد نبلغ ثلاثة ملايين في رقعة صغيرة من الأرض، ولكل “ثلّة” منا ولكل ضَيعة توقيتٌ وأذان وإمساك وإفطار. ثم يسأل سائل: لماذا فشلنا ولم نستحق نصر الله؟!

من مجاهد ديرانية

كاتب وباحث إسلامي، سوري