قررت حركة “النهضة” التونسية عدم التزام الحياد في الانتخابات الرئاسية المقررة في ديسمبر من العام الحالي، كما فعلت في عام 2014، وأعلنت بعد اجتماع مجلس الشورى نهاية الأسبوع الماضي، أنها “إما سترشح أحداً منها أو تدعم مرشحاً من خارجها”. وطلب المجلس من المكتب التنفيذي للحركة وضع تصورات لسيناريوهات الرئاسة، ليتم التداول بها بعد ذلك واتخاذ قرار نهائي. مع العلم أن حياد “النهضة” في الانتخابات الماضية، لم يكن إلا حياداً رسمياً أو نظرياً، مع تركها حرية التصويت لأعضائها. فذهب شق كبير من القواعد إلى التصويت للمنصف المرزوقي، فيما صوّتت قيادات، أهمها راشد الغنوشي، لمنافسه الباجي قائد السبسي.
ولكن إعلان النهضة عدم الحياد هذه المرة، يعني أنها ستخوض بكل ثقلها الانتخابات وستوجه توصيات لقواعدها، وربما تساهم أيضاً في الحملة الانتخابية للشخصية التي ستدعمها من الخارج، فضلاً عن ترشيح أحد منها، وهو ما لم تفعله في الانتخابات الماضية. ويشكّل مجرد التلويح بهذا الخيار رسالة واضحة للجميع، الحلفاء والمنافسين معاً، مضمونها أن النهضة ستكون الورقة الأقوى والأكثر تأثيراً في هذه الانتخابات. فبعملية حسابية بسيطة يمكن للرصيد الانتخابي النهضوي ترجيح كفة على أخرى، خصوصاً في الدور الثاني.
“الحديث المتكرر في “النهضة” عن الانتخابات الرئاسية، يشير إلى وجود رغبة في ترشيح الغنوشي”
وتقدم معظم عمليات سبر الآراء والانتخابات المتتالية حركة “النهضة” برصيد انتخابي، ينقص أو يزيد قليلاً، على 25 في المائة من الجسم الانتخابي، علاوة على أنه جسم منضبط ومنتظم، أثبت في كل الاستحقاقات الماضية أنه فاعل وحاضر في الانتخابات، ولا يحتاج إلى عملية دفع أو تحفيز كبيرة، مثلما تحتاجها أحزاب أخرى تضررت كثيراً من العزوف الانتخابي.
وتشكّل هذه النسبة قوة ضاربة بإمكانها ترجيح كفة أي مرشح للرئاسة، خصوصاً في ظل التفتت الذي ضرب كل الأحزاب الأخرى وتعدّد أسماء المرشحين الممكنين. ما يجعل مهمة “النهضة” أكثر سهولة في هذه الحالة. وهو ما يفسّر رسائل الود التي توجهها شخصيات سياسية تونسية للحركة، سراً وعلناً، للحصول على دعمها في الانتخابات الرئاسية المقبلة، بالإضافة إلى محاولات البعض القفز فوق قيادة “النهضة”، ومغازلة قواعدها مباشرة في ملفات عدة، دينية خصوصاً.
وتقف الحركة بهذا الشكل موقف الحكٓم في الانتخابات الرئاسية، يمكّنها من انتخاب الشخصية التي يمكن أن تتحالف معها في المستقبل وتبني معها شراكة جديدة، تحديداً بعد سقوط التوافق مع “نداء تونس” والسبسي. وهو ما يضعها في موقع المفاوض القوي ويتيح لها فرض توافقات مهمة في ملفات حساسة كثيرة بشأن إدارة الحكم في تونس، ولكن هذا يفترض إثبات تحكمها في قواعدها إلى حين حلول اللحظة الانتخابية، والتي ستتبيّن في الانتخابات التشريعية التي تسبق الرئاسية، في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
وإذا تمكنت الحركة من تحقيق النجاح في الانتخابات التشريعية بما يقارب حضورها البرلماني الآن أو يقترب من إنجازها في الانتخابات البلدية، فإنها ستكون ذات ثقل كبير، لا في الانتخابات الرئاسية فقط، بل في المشهد السياسي العام بكل تفاصيله. وسبق لرئيس الحركة راشد الغنوشي، أن أكد في حديثه بمناسبة الاحتفال بالثورة يوم 14 يناير/ كانون الثاني الماضي، أن “الأرجح هو دعم مرشح من خارج الحركة”، وأنه شخصياً لا طموح لديه لخوض الانتخابات الرئاسية، لأن الثورة قدمت له كل ما يحتاجه وأكثر.
في المقابل، إن الحديث المتكرر لشخصيات سياسية في “النهضة” عن الانتخابات الرئاسية، يشير إلى وجود رغبة في ترشيح الغنوشي. وهو ما لم يكن مطروحاً في السابق، بالإضافة إلى أن بعضها قال صراحة إن “مؤسسات الحركة يمكن أن تدفع إلى ترشيح الغنوشي، حتى وإن كان رافضاً لذلك” (نور الدين البحيري، رئيس الكتلة في البرلمان، والنائبة يمينة الغزلاني).
وربما تعتبر هذه القيادات أن هناك فرصة تاريخية مهمة لبلوغ “النهضة” هذا المنصب المعنوي الذي يمكن أن يسقط نهائياً صراع الحركة التاريخي مع الدولة ورموزها عموماً، على الرغم من أنها الآن مشاركة في الحكم بشكل واسع، وتمتلك بين يديها خيوطاً وازنة. غير أن منصب الرئيس له رمزية استثنائية في نفوس النهضاويين، بعد عقود من الصراع مع الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وحتى مع السبسي في الأشهر الأخيرة.
ولكن هذا الرأي ليس عاماً في “النهضة”، وهناك من يعارضه ويعتبر أنها “خطوة غير محسوبة سياسياً”، ويمكن أن تكون مغامرة شديدة التداعيات، لأن المزاج الوطني وحتى الإقليمي والدولي غير جاهز بعد لوجود النهضة في أول صفوف الحكم. ويعتقد البعض أن “ترشيح الغنوشي، على الرغم من أحقيته النظرية والسياسية والقانونية، سيكون له مفعول عكسي على المشهد المشتت، وقد يسهم في تجميعه مجدداً ضد النهضة”. ويعتبر هؤلاء أن “دور الزعيم يليق أكثر بالغنوشي في هذه المرحلة من دور الرئيس”.
ويذهب هذا الرأي إلى اعتبار أن “الحجم الانتخابي للنهضة يمكن أن يقود مرشحها إلى الدور الثاني، ولكنه لا يمكن أن يكون حاسماً للفوز، فالخسارة ممكنة في هذه الحالة، وقد تكون لها تداعيات سياسية ونفسية على الحركة وعلى الغنوشي نفسه”.
وبين هذين الاتجاهين يدور النقاش داخل الحركة حالياً قبل أن يتحوّل إلى مؤسساتها الرسمية، أي المكتب التنفيذي ومجلس الشورى. وهناك تردد مفهوم بهذا الخصوص، تحديداً لأن قائمة المنافسين المحتملين لم تتأكد بعد، وما إذا كانت ستشمل السبسي والشاهد أم لا، بالإضافة إلى مراهنين مهمين آخرين، وحظوظ الجميع في هذه الحالة. ولكن موقف الغنوشي نفسه هو الذي سيحسم هذا النقاش، لأن الترشح للانتخابات الرئاسية هو قرار شخصي في نهاية الأمر، وستكون له تداعيات مهمة، مع أن السؤال يبقى مطروحاً بخصوص الشخصيات الأخرى التي يمكن أن تدعمها النهضة والتحالفات التي ستصيغها للمرحلة المقبلة، وهي مرحلة محفوفة بكثير من الغموض.