استغلت «طالبان» بعد عام 2003 ولأبعد الحدود، الانشغال الأميركي في العراق عن قتال الأميركيين لها، فقد تحدث علماء السياسة مبكراً، أن واشنطن لا تقدر على التعاطي مع أزمتين في الوقت نفسه، وإنما قادرة على التعاطي مع أزمة ونصف الأزمة، فركزت «طالبان» على الجهد العسكري وتحديداً على الضربات النوعية المستهدفة للقوى الأجنبية، واستنسخت تكتيكات المقاومة العراقية في قتال الأميركيين وتحديداً العبوات الناسفة، ساعدهم في ذلك تنفس الحليف الباكستاني الصعداء بسبب خفة الضغط الأميركي عليه في أفغانستان، نتيجة انشغاله بما هو أهم وأحدث وهو العراق، بالإضافة إلى التمدد الهندي والإيراني منافسي باكستان ظاهراً ومستتراً في أفغانستان، فكان على باكستان مواجهة هذه التحديات الإقليمية تماماً كما واجهتها يوم انسحب السوفييت من أفغانستان في مثل هذه الأيام من عام 1989، وتبعه تراجع الاهتمام الأميركي هناك، فسعت القوتان الإقليميتان الهندية والإيرانية لملء الفراغ.

 

تصاعدت العمليات العسكرية الطالبانية النوعية مستهدفة القوات الأميركية، وتعرضت القوات البريطانية حليفة الأميركيين لخسائر فادحة في معاقلها التاريخية غرب أفغانستان وتحديداً في هلمند، وكذلك تعرضت القوات الأميركية لخسائر فادحة في الشرق الأفغاني المحاذي لباكستان، وهو ما تطلب سحب القوات البريطانية من الغرب الأفغاني، مما بذر بذور الخلاف والشقاق في صفوف الائتلاف الدولي، ودفع التحالف للتصدع، فقد حذّر مبكراً كثير من الساسة والخبراء التحالف الدولي من فتح جبهة جديدة في العراق، كون ذلك سيُضعف الحرب على «طالبان» و«القاعدة»، ولكن جاء التوجه الجديد إلى العراق بمثابة خشبة خلاص طالبانية.

 

إذن مع تصاعد العمليات العسكرية، بدأت واشنطن بالتفكير في وضع نهاية لأطول حروبها خارج بلادها، فكانت المفاوضات السرية والعلنية إن كان في الدوحة أو غيرها، ولكن كلها هدفت إلى وقف الحرب، وعجّل بذلك فشل القوات الأميركية في إخضاع «طالبان» عسكرياً، كما فشلت سياسياً في تقديم بديل سياسي ديمقراطي، تُوّج ذلك بعجزهم عن فرض الناجح في الانتخابات الأفغانية بأن يشكل حكومته وحده، فتم تشكيل حكومة مختلطة من الموالاة «الرئيس الحالي أشرف غني» والمعارضة «الدكتور عبدالله»، وهو ما حمل بذور الفشل السياسي، إذ كيف يمكن تنفيذ مشروع مزدوج ومتعارض ومتناقض للطرفين

 

«موالاة ومعارضة».

 

انطلقت المفاوضات الطالبانية على وقع التصعيد العسكري ضد القوات الأميركية، ومع كل جولة مفاوضات كانت الحرب تزداد ضراوة، إن كان بعمليات نوعية داخل كابل أو خارجها، أو بتكتيكات عسكرية جديدة، وقد اختصرها مفاوض طالباني لنظيره الأميركي خلال جلسة من جلسات المفاوضات، حين سعى الأميركي إلى استرضائه واستمالته بقوله.

 

لم يكن الملا محمد عمر -زعيم حركة طالبان الذي أعطى الإشارة الخضراء لانطلاقة المفاوضات- متعلقاً كثيراً بها، وكانت وصيته لكل المفاوضين استعدوا ليوم تغلقون فيه كل مكاتبكم التفاوضية في الخارج، إن تبين لنا تأثيرها على فكرنا ومنهجنا، وأنها للمساومة على سياستنا المبدئية.

 

لم يمنع فتح قنوات التفاوض الطالباني مع الأميركيين، أن تكوّن قنوات متعددة ومع دول عدة ومتناقضة ربما، وذلك من أجل كسب مزيد من الأوراق والحلفاء، ولكن ظلت «طالبان» أمينة لمن تثق به، وشددت خلال كل جولاتها التفاوضية على ضرورة انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان، وبذلك كسبت عدة عصافير بحجر واحد، فقد قدمت نفسها على أنها الجهة الوطنية الوحيدة التي ترفع شعارات تتسع للجميع، بينما تظهر الطرف الحكومي الآخر وكأنه عميل للخارج، وتضعف بذلك الحكومة التي تستمد قوتها من الخارج، وفي النهاية كسبت الحركة ومقاومتها على مدى سنوات، شرعية دولية بأنها تقاتل احتلالاً وقوات أجنبية، ولذلك رفضت أي وقف لإطلاق النار مع وجود قوات الاحتلال، واشترطت له خروج كامل القوات الأجنبية، فأي وقف لإطلاق النار يعني اعترافاً بالوجود الأجنبي في أفغانستان.

 

للتفاوض مهارات أتقنتها الحركة الطالبانية، على الرغم من عدم دراسة وفدها التفاوضي في جامعات غربية، ولكن لعل الخلفية القبلية التقليدية وجلسات «اللويا جركا» الممتدة لساعات طويلة، أكسبتها مهارات تفاوض ليست قليلة، طبقتها في جلسات مفاوضات ماراثونية أثمرت أخيراً رضوخاً أميركياً بسحب قواتهم من أفغانستان، وذاك اعتراف بشرعية قتال طالباني لعقدين تقريباً، وتأسيس لمرحلة جديدة قد تكون لها اليد العليا في أفغانستان المستقبل.

من د. أحمد موفق زيدان

كاتب صحفي، سوري