د. صلاح الصاوي

يتابع المشككون شبهاتهم قائلين:

– إننا نجد أن عمر – رضي الله عنه – قد عطل حد السرقة في عام الرمادة للمصلحة، ورفض تقسيم أرض السواد بين الفاتحين للمصلحة، وأمضى الطلاق ثلاثًا بكلمة واحدة للمصلحة، ومنع سهم المؤلفة قلوبهم للمصلحة، فماذا تقولون في ذلك كله؟

 

– كل ذلك خارج عن محل النزاع، أيها الصديق لأنه لم يكن إلا إعمالاً للنصوص واجتهادًا في فهمها، ولم يكن تركًا لها بالمصلحة بحال من الأحوال، وإليك تفصيل القول في ذلك.

 

أما إيقافه العمل بحد السرقة في عام الرمادة، فلكثرة المحاويج في هذا العام، الأمر الذي أدى إلى وقوع الاشتباه بين من يسرق اضطرارًا وبين من يسرق عدوانًا، وغلبة من يسرقون اضطرارًا على غيرهم، ولا يخفى أن دَرْء الحدود بالشبهات من القواعد القطعية في الشريعة، وأن من شروط إقامة الحد انتفاء الشُّبْهَة، وأن خطأ الإمام في العفو خير من خطئِه في العقوبة، فقد روى الترمذي عن الإمام أحمد: ((ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجًا فخلوا سبيله، فإنَّ الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة))، فعمر – رضي الله عنه – لم يسقط الحد بعد وجوبه؛ بل هو لم يجب أصلاً لوجود الشبهة التي أوجبت درأه، فكيف يقال إنه عطل النص بالمصلحة؟

 

– هل تقبل أنت التأسي بعمر – رضي الله عنه – بالنسبة لواقعنا المعاصر؟

 

– ولم لا، وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المَهْدِيِّينَ من بعدي عضوا عليها بالنواجذ[1]))؟، إذا بلغ القحط بأمة من الناس ما بلغ بالمسلمين في عام الرمادة أوقفنا إقامة الحد عليهم تأسّيًا بعمر – رضي الله عنه – بل وإعمالاً للقواعد الشرعية التي أعملها، وهي درء الحدود بالشبهات، وعدم إقامة الحد على مَن سرق لحاجة، وقد سُئل الإمام أحمد – رضي الله عنه – فقال: لا أقطعه إذا حملتْه الحاجة على ذلك، والناس في مجاعة وشدة.

 

– أما إلغاؤه لسهم المؤلفةِ قلوبُهم من الزكاة فقدْ كان اجتهادًا منه في تحقيق مناط الحكم، ولم يكن نسخًا له، وإخراجًا له بالكلية من عداد مصارف الزكاة، فتأليف القلوب صفة إن وجدت الحاجة إليها استحقَّ أصحابها من الزكاة، وإن لم توجد لم يستحقوا؛ شأنها شأن الفقر والمسكنة، وغيرها من بقية الصفات التي أناطت بها الآية استحقاق الزكاة.

 

ولقد كان احتجاجُ عمر أنَّ الحاجة في عهده إلى التأليف منتفية؛ لعزة الإسلام ومنعته، فتخلفت الصفة التي كان يعطى من أجلها هؤلاء من أموال الزكاة، ثم إن تجددت هذه الصفة في عصر لاحق تجدَّد عطاؤهم، وهكذا، وذلك كما لو كنت تعطي إنسانًا لفقره، ثم أغناه الله فامتنعت عن إعطائه، فإن افتقر مرة أخرى أعطيته وهكذا، لأنك لا تعطيه لذاته؛ وإنما تعطيه لما اتصف به من الفقر، فإن وجدت الصفة أعطيته، وإن لم توجد منعته.

 

وأمَّا إمضاؤه الطلاق ثلاثًا بكلمة واحدة، فلقد كان هذا اجتهادًا منه – رضي الله عنه – وله عليه شواهد كثيرة منَ السنة، فقدِ استفاضت الأحاديث والآثار فيمن طلق ألفًا أو مائة أو تسعة وتسعين فاستقر في حقهم ثلاثًا، ومن هذه الأحاديث ما هو مروي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ومنها ما هو مروي عن الصحابة أو التابعين، فلم يكن في فعله هذا مخالفًا للسنة، ولا رادًّا لها بالمصلحة.

 

ومن هذه الشَّواهد أيضًا حديث فاطمة بنت قيس، وهو في الصحيحين، قالت: “طلقني زوجي ثلاثًا فلم يجعل لي رسول الله نفقة ولا سكنى”.

 

وقد عقد ابنُ ماجه في سننه بابًا بعنوان: باب مَن طلق ثلاثًا في مجلس واحد، وساق فيه حديثًا عنِ الشعبي أنَّه قال لفاطمة بنت قيس: حدّثيني عن طلاقك، قالت: طلقني زوجي ثلاثا وهو خارج إلى اليمن، فأجاز ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ومن هذه الشواهد أيضًا حديث رُكانة الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني والشافعي: أنه طلق زوجته البتة فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ما أردتَ إلا واحدة؟))، فقال: “الله ما أردتُ إلا واحدة”، فردها إليه. وفيه دليل أنه لو أراد ثلاثًا لأمضاها عليه.

 

– ولكنْ ماذا تقولُ في الحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن عباس: “كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنَّ النَّاس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم”. وهو حديثٌ صريح في أنَّ من طلق ثلاثًا بكلمة واحدة كانت تحسب له تطليقة واحدة في عهده – صلى الله عليه وسلم – وفي عهد أبي بكر؛ بل وفي صدر خلافة عمر نفسه، ثم أمضاه عليهم ثلاثًا بعد ذلك؛ تحقيقًا للمصلحة حتى ينزجروا عن المُسارعة في التطليق؟

 

– لقد ذكر النووي – رحِمه الله تعالى – في بيانه لهذا الحديث أنَّ معناه: أنَّ مَن كان يقول لزوجَتِه في أول الأمر: “أنت طالق”، “أنت طالق”، “أنت طالق”، ولم ينوِ تأكيدًا ولا استئنافًا كانت تُحسب عليه طلقة واحدة؛ لقلَّة إرادتهم الاستئناف يومئذٍ؛ بل كان التأكيد هو الغالب، فلمَّا كان زمن عمر كثر استعمال الناس لهذه الصيغة وغلب عليهم إرادة الاستئناف بها، فحملت عند الإطلاق على الثلاثة عملاً بالغالب السابق إلى الفهم منها في ذلك العصر.

 

وأيًّا كان الأمر فالمسألة من موارد الاجتهاد بين الصحابة وبين الأئِمَّة، والَّذي يَعنينا هو ورود سُنَّةٍ صحيحة تؤكّد أنَّ الطلاق ثلاثًا بكلمة واحدة، كان يُحسَبُ ثلاثَ تطليقات، وتبقَى قضيَّة الجمع بين النصوص وهي قضيَّةٌ اجتهاديَّة، فلم يكن الأمر مُجرَّد المصلحة أو محض تحكيم العقل؛ كما يريد أن يحملنا على ذلك المجادلون!

 

– وماذا عن عدم قسمة سواد العراق بين الفاتحينَ، وجعلها وقفًا على جميع المسلمين، خلافًا للمقطوع به من الدين من قسمة الغنائم أخماسًا؛ خمس لله ورسوله، وأربعة أخماس للمجاهدين؛ كما قال – تعالى -: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41].

 

– الجواب عن ذلك أنَّ عمر – رضي الله عنه – قد فهم من خلال التأمل في النصوص أن قسم الغنائم كان تصرفًا من النبي – صلى الله عليه وسلم – بوصف الإمامة ورياسة الدولة، وليس على سبيل التبليغ، وما كان كذلك فإنه لا يكون شريعة عامَّة؛ ولكنه يدور مع المصلحة الشرعية وجودًا وعدمًا.

 

وإذا كان ذلك كذلك فإنه يكون تخصيصًا لعموم آية الأنفال، ويكون المراد بها المنقولات ونحوها مما يغنم ويحاز حقيقة للأفراد والمقاتلين، ولا يكون معارضًا لها ولا رادًّا لعمومها بمحض المصلحة.

 

ولم يكن عمر في صنيعه هذا مبتدعًا؛ بل كان مهتديًا بنور النبوة، فلقد فتح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكة ولم يقسمها كما هو مشهور، بل مَنَّ على أهلها وترك أرضهم وأموالهم في أيديهم؛ لما رأى في ذلك من المصلحة وتأليف القلوب على الإسلام، وروي عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه لما فتح خيبر قسم نصفها فقط، ووقف نصفها لنوائبه.

 

بل كان مُتأوِّلاًَ لقوله – تعالى – في سورة الحشر: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7].

 

وإذا كان الأمر في ذلك واسعًا فلا تثريب على الفاروق أنه اجتهد أن تبقى الأرض ملكًا للمسلمين في جميع أجيالهم، ويقر أربابها عليها مقابل خراج يكون في المصالح العامة للمسلمين؛ حتى لا تكون دولة بين الفاتحين، وقد وافقه على ذلك كثير من فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

 

– ماذا تعني بقولك أنَّ هذا تصرّف من النبي – صلى الله عليه وسلم – بمقتضى الرياسة والإمامة؟

 

– أعني أنَّ هُناك ما صدر عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – بوصفه إمام الجماعة الإسلامية ورئيسها لا بصفته مبلّغًا عن الله – تعالى – فما صدر عنه على سبيل التبليغ والرسالة كان حكمًا عامًّا، وشريعة ملزمة على الثقلين إلى يوم القيامة.

 

أمَّا ما صدر عنه بوصف الإمامة فإنَّ الأمر فيه يكون موكولاً إلى الإمام، ولا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلاَّ بإذنه، ومن الأمثلة على ذلك تصرفه – صلى الله عليه وسلم – في أمر الحرب وتعبئة الجيوش وعقد العهود وقسمة الغنائم ونحوه.

 

ولا يخفَى أنَّ هناك من الأمور الشرعية ما اتفق على كونه قد صدر عنه – صلى الله عليه وسلم – على سبيل التبليغ؛ ككافة مسائل العبادات، وكثير من مسائل المعاملات، كما أن هناك من المسائل الأخرى ما اتفق على صدوره عنه بوصف الإمامة.

 

ويبقى بعد ذلك قسم ثالث هو موضع نظر أهل العلم، هل صدر عنه بوصف التبليغ أم بوصف الإمامة؟ وذلك كقوله: ((من قتل قتيلا فله سلبه))؛ رواه البخاري، وقوله – صلى الله عليه وسلم – لمعاذ حين أرسله إلى اليمن: ((خذ من كل حالم دينارًا))، وذلك في الجزية، وكقضائه على الزاني بالتغريب والنفي عن البلد، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ النبي قد فعل ذلك سياسةً وتعزيرًا، فيكون الأمر فِي توقيع هذه العقوبة من بعده إلى الإمام، وكقسمة أرض خيبر بين الفاتحين، ونهيه – صلى الله عليه وسلم – عنِ ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام من عيد الأضحى ونحوه، ومن رجع إلى كتب المحقّقين من أهل العلم وقف من ذلك على الكثير، وقد أشار إلى هذا التفريق القرافي المالكي – رحمه الله – في كتابه “الفروق” فليراجع.

—–

[1]   رواه أبو داود والترمذي من حديث العرباض بن سارية.

من د. صلاح الصاوي

الأمين العام لمجمع فقهاء الشريعة ورئيس الجامعة الإسلامية بأمريكا «مشكاة»