استوقفتني شخصية العملاق الكبير محمود عباس العقاد، وأنا أقوم بمراجعة وتحقيق بعض كتبه فوجدت شخصية عبقرية متعددة القدرات ،حريصة على لغتها ودينها.

 

فالعقّاد.. علم من أعلام الفكر والأدب والنقد.. كاتب واسع الاطلاع.. بعيد النظر.. عميق الغور.. رحب الأفق.. موسوعيّ متمرّس.. غزير الإنتاج، زادت كتبه التي ألفها على مائة كتاب في مختلف الفنون والعلوم والآداب والنقد والسيرة والتراجم والتاريخ والفلسفة. وهو شاعر مجدّد لقي شعره الإعجاب والاستحسان، كما لقي في الوقت ذاته المعارضة والاستهجان من آخرين بحجة غموضه، والمعاظلة فيه، والتعقيد، وغلبة المنطق والعقل عليه، ما أثار حوله وحول أدبه معارك وخصومات مع كبار عصره ونقّاده. فأردت أن ألقي الضوء على لمحات من حياته وسيرته.

 

أولاً: حياته

 

ولد عباس محمود العقّاد في 28|6|1889 في بيت من بيوت مدينة أسوان العريقة. في أسرة اشتهرت بالتقوى وكرم الأخلاق وحب الخير. وقد كانت لهذه النشأة أثر في اكتساب العقّاد كثيراً من الأخلاق والصفات الحميدة كالإيمان والصبر والاعتكاف وإيثار البعد عن اللغو، وأخذ الحياة من جانبها الجاد الصارم..

 

وقد تلقى العقّاد تعليمه الابتدائي في أسوان، واشتهر منذ طفولته بين أساتذته بالتفوق والنبوغ. وبالإضافة إلى دراسته الصباحية فإنه كان يختلف إلى مدرسة أخرى في المساء بصحبة أبيه، وهي ندوة الشيخ القاضي أحمد الجداوي. إلا أن العقاّد لم يكمل تعليمه بعد حصوله على الشهادة الابتدائية ووفاة أبيه، واشتغل بعد ذلك في وظائف حكومية عدة ، كما اشتغل بالتدريس في المدارس الأهلية. لكنّه سرعان ما ضاق بحياة الوظيفة وقيودها، ولم يكن له أمل في الحياة غير صناعة القلم، وهذه الصناعة ميدانها الصحافة فاتجه إليها، وقد كانت الباعث الأكبر، والمحرّك لنبوغه في الكتابة. فيعدّ هو أول من أدخل في تاريخ الصحافة باب التحقيقات الصحفية. وكانت أول جريدة عمل بها هي جريدة الدستور وأول حديث صحفي له كان مع سعد زغلول.

 

ثانياً: ثقافته

 

لقد ظهر الميل إلى الكتابة عند العقّاد مبكّراً، لما كان يتمتع به من استعداد فطري وذكاء حاد، وقريحة نفّاذة وذهن متوقّد. كما ساعدت العوامل التي أحاطت به على تنمية مواهبه وظهورها. فقد لفت نبوغه في المدرسة أنظار أساتذته، فهيأت المدرسة له الوسائل، وأرشدته إلى أول الطريق، وساعدته على اكتشاف نفسه وإدراك إيجابياتها. كما أعانته على القراءة الحرة وحضور الندوات والمطارحات الأدبية. وقد هيأت الكتب والمجلات المتوفرة في بيت والده مجال القراءة. فقد كان يتزود منها، منقطعاً لقراءتها مواصلاً ليله بنهاره.

 

وقد كانت للبيئة الأسوانية أثر في تكوين رصيده الثقافي والمعرفي. فقد كانت أسوان ملتقى للسائحين، ولهذا توفرت فيها المجلات والكتب الأجنبية، فرفد منها ثقافته العربية برافد آخر أجنبي، وكان لذلك أثر في الاطلاع على الآداب الأجنبية، ولا سيّما الأدب الإنجليزي.

 

وهناك رافد آخر من روافد ثقافة العقّاد يتمثل في طبيعة العصر الذي عاش فيه، ذلك العصر الذي كان مليئاً بالقلق والتردد واليأس. فقد فتح عينيه على بلاده التي تجثم تحت أقدام الاحتلال الإنجليزي، وأهل البلد لا يتوانون في مطالبة حقوقهم، ونزوح المستعمر عنها. بالإضافة إلى ذلك فهو يرى ويسمع عن الصراع العالمي الدامي، إذ تنذر سحب الحرب العالمية الأولى بشر مستطير وأمر خطير، فقد أصبح الناس في هم ويأس من الغد الذي لا ينبئ بأمن ولا استقرار.

 

وقد كانت لتأثيرات العصر تلك أثر في العقّاد، سواء في شخصيته أو فكره أو أدبه. وكلها آثار إيجابية، وإن كانت أسبابها تفترق من ناحية الحكم عليها بالإيجاب أو السلب.

 

ثالثا: مؤلفاته

 

عرف العقّاد بنهمه الشديد في القراءة، وقدرته الفائقة على الفهم والاستيعاب، وشملت قراءاته الأدب العربي والآداب العالمية، ولم يقتصر على ذلك بل كان يطالع كتباً كثيرة لا ينوي الكتابة فيها إنما ليشبع نهمه ويوسّع إدراكه.

 

وقد كتب العقّاد عشرات الكتب في موضوعات مختلفة؛ فكتب في التاريخ والاجتماع، مثل: (مطالعات في الكتب والحياة)، و(أشتات مجتمعة في اللغة والأدب)، و(ساعات بين الكتب)، و(اليد القوية في مصر).

 

ووضع في الدراسات النقدية واللغوية مؤلفات كثيرة، أشهرها كتاب (الديوان في النقد والأدب) بالاشتراك مع المازني، وأصبح اسم الكتاب لاحقاً عنواناً للمدرسة الشعرية التي ينتمي إليها، وعاش طوال حياته ينادي بمبادئها، محارباً من أجلها. ومن كتبه في النقد أيضاً: (ابن الرومي حياته من شعره)، و(رجعة أبي العلاء)، و(اللغة الشاعرية).

 

وله في السياسة كتب كثيرة منها: (هتلر في الميزان)، و(أفيون الشعوب)، و(لا شيوعية ولا استعمار). وله تراجم عميقة لأعلام من الشرق ومن الغرب، مثل: (سعد زغلول)، و(غاندي)، و(محمد علي جناح)، و(محمد عبده)، و(ابن سينا)، و(الفارابي).

 

أما إسلاميات العقّاد فقد تجاوزت الأربعين كتاباً، شملت جوانب من الثقافة الإسلامية، فتناول أعلام الإسلام في كتب ذائعة، عرف الكثير منها باسم (العبقريات)، مثل: (عبقرية محمد)، و(عبقرية عمر)، و(عبقرية خالد)، و (الصدّيقة بنت الصدّيق)، و(أبو الشهداء).

 

أما في مجال الدفاع عن الإسلام فقد ألّف العقّاد عدة كتب، أهمها: (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه)، و(الفلسفة القرآنية)، و(ما يقال عن الإسلام). وقد ردّ العقّاد في بعض هذه الكتب على ما يثيره أعداء الإسلام من شبهات ظالمة يحاولون ترويجها، مثل: انتشار الإسلام بالسيف، وتحبيذ الإسلام للرق. وقد فنّدها بالحجج المقنعة والأدلة القاطعة.

 

وقد وصف محمود تيمور، العقّاد بأنه: “الكاتب الجبّار، عرف في مساجلاته بأنه عنيد عنيف، وكان من جبروته في خاصة أمره ومن عنفه بنفسه في مجرى حياته أنه لم يرض السير في طريق ممهد مألوف، لا بوصفه شاعراً وكاتباً، ولا بوصفه ناقداً ومؤلفاً، ولا بوصفه مترجماً لأقطاب الأدب وقادة الفكر… والحق أننا لو التمسنا كاتباً عصرياً ينطبق عليه وصف ابن العميد لأديب العربية القديم الجاحظ، لكان العقّاد أديب العربية الحديث خير من ينطبق عليه ذلك الوصف الدقيق الذي أوجزه ابن العميد في قوله: “كتب الجاحظ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً”.

 

رابعاً: شعره

 

كثير من النقّاد نقّاد فحسب وليسوا بشعراء، أو ليس لهم من الشاعرية نصيب، حتى ولو كانوا متخصصين لنقد الشعر دون سواه، لكنّ العقّاد لم يكن من هؤلاء وإنما كان من أولئك النفر القليل، الذين كانوا نقّاداً، وفي الوقت نفسه شعراء، ولهم من الشعر والشاعرية الشيء الكثير. وهذا ما يدعونا إلى الوقوف عنده شاعراً، للبحث عن خصائص شاعريته، لأنه كان يطبق الكثير من نظرياته الشعرية على إنتاجه الشعري. فقد كان شعره ترجمة عن نظرته في الشعر. فالعقّاد لم يكن كاتباً فذّاً وباحثاً دؤوباً ومفكّراً عميقاً، ومؤرخاً دقيقاً فحسب، بل كان مجدّداً، أبدع في الشعر وأغراضه المختلفة، فكان العقّاد الشاعر هو العقّاد الناثر، والعكس صحيح أيضاً.

 

ويتضح مما سبق أن هناك عناصر كثيرة أسهمت في تكوين شعره وشخصيته الأدبية، فهو مصري عربي، يستشعر أمجاد العرب ومصر في ضميره وقلبه، وقد توفّر على قراءة أمهات الكتب العربية في الشعر والنثر والفلسفة والتاريخ. وفي الوقت نفسه نجده غربي التفكير، تزوّد من آداب الغرب بكل ما استطاع من غذاء عقلي، وأوغل في قراءة الأدب الإنجليزي والآداب الغربية المختلفة عن طريق اللغة الإنجليزية التي أتقنها، كما توغّل في قراءة الآثار النقدية.

 

وللعقّاد عشرة دواوين هي ثمرة ما يزيد على خمسين عاماً من التجربة الشعرية. وهي: يقظة الصباح، ووهج الظهيرة، وأشباح الأصيل، وأعاصير، وأشجان الليل، ووحي الأربعين، وهدية الكروان، وعابر سبيل، وديوان من دواوين.

 

لقد ظلّ العقّاد عظيم الإنتاج، لا يمرّ عام دون أن يسهم فيه بكتاب أو عدّة كتب، حتى تجاوزت مائة كتاب، بالإضافة إلى مقالاته العديدة التي تبلغ الآلاف في بطون الصحف والدوريات. كما أنه اشتهر بصالونه الأدبي الذي كان يعقد صباح كل جمعة، يؤمه تلامذته ومحبّوه. يلتقون حول أستاذهم، ويعرضون لمسائل العلم والأدب والتاريخ، دون ترتيب لها أو إعداد، فقد وقف العقّاد حياته كلها على خدمة الفكر الأدبي. وقد بايعه طه حسين بإمارة الشعر بعد موت شوقي وحافظ، قائلاً:

 

“ضعوا لواء الشعر في يد العقّاد، وقولوا للأدباء والشعراء أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء، فقد رفعه لكم صاحبكم.

من د. أحمد زكريا

كاتب وباحث