صلاح المكاوي

لقد مَنّ الله علينا بصلاة الفجر في جماعةٍ على شاطئ النهر المُترعِ بالماء السَّلسلِ حتى حافتيه، والذي يُهسهِسُ مُنسابًا إلى حيث يشاء المولى الكريم، يُعطي عطاءً غير مجذوذ، فسبحان من بالماء أجراه، وبالعذوبة جمّله وحلّاه!

 

شجرة الجميز العتيقة تربّعت سامقةً تنشرُ فروعَها الغضّة المُحمّلة بالأوراق العريضة الموغلة في الخضرة؛ لتظلِّلَ المُصلَّى الفسيح المُتاخم لساقها العظيمة. رائحةُ النعناع خلفَنا تضوعَّت في المكان فانتعشتْ بأريجها الصدور، تُظلل النعناعَ أوراق الموز العريضة التي تدلّت في سكينةٍ وخشوع،

 

ارتكنتُ على جدار المُصلَّى الّلبنيّ ريثما تُقامُ الصلاة، فسَرَتْ الراحة في ظهري، وشرعَ الجدارُ يغذوه بالدفء والحُنّو، ولم لا وهو مادة الخلق!

 

صلينا وسلّم الإمام وتلاه المُصلُّون، الفرحةُ تغمرُنا بتمام النعمة التي حُرمها غيرُنا، بقينا بعض الوقت نختمُ الصلاة، الهواءٌ طريٌّ نقيٌّ يُنعشُ القلوب المُتبتِّلة في كون الله الرحيب، لا سقفِ فوقنا إلا السماء، ولا جُدر تحجبُ عنا روعة الفضاء.

 

الفلاحون على الضفة الأخرى من النهر وقد اندفعوا راكبين عرباتهم، يجرُّون مواشيهم إلى الحقول؛ لإنجاز أعمالهم قبل حرِّ الظهيرة،

 

الجرارات الزراعية تتخلّلُ الأراضي بالمحاريث تشق فجاجَها استعدادًا لغرسٍ جديد، بعد درس القمح نهارًا.

هذا ما رأيتُ في فجر الرابع عشر من رمضان

خلّفتُ المُصَلّى عائدًا أدراجي، وقد اتخذتُ مِن ضفةَ النهر مسارًا، بيد أنه استرعى انتباهي أشياءَ عجيبة تحدث، لكأني بالكون يتهيأُ لشيء جَلل، كل ما حولي يُنبئ إلى بذلك:

 

فهذا ماءُ النهر يطفو لحافتيه، حتى كاد يلامسُ على الجسرِ أقدامي، وما هذا الذي أري قُدّامي؟! الأشجار خاشعة مُتبتّلة، تتدلّى رؤوسها ساجدة، يُصافح بعضُها بعضًا لتُشكّل أقواسًا رائعة على ضِفتي النهر!

 

القمرُ البدرُ في كامل بهائه وضيائه الذي لم أره طيلة نصف قرنٍ هي حياتي!

 

إنه يُسرفُ في إرسال نوره المُنساب على صفحة النهر الرقراق فيزيده التماعًا وبريقًا، صياحُ الدِّيكة يتعالى بصورة عجيبة؛ ليعزفَ أنشودةً غاية في الروعة والعذوبة، الكائنات حولي أكادُ أسمعُ تسابيحَها شاكرةً أنعمَ الله، حتى الكلاب التي كانت تقطعُ طريقي للمُصلّى مُبادرةً إياي بالنُباح كل فجر، ولا تكفُّ حتى أُلقمُها الحجارة، أراها اليوم تلملمُ اذيالَها مُنسحبة إلى مَزاجِرها!

 

العصافيرُ تزقزقُ في أعشاشها خِماصًا، وتتهيأ للانطلاق سعيًا على أرزاقها،

 

صفحةُ الكونِ ترتسمُ فيها كل معاني الروعة والبهاء، والجمال والجلال بكامل الألوان والتفاصيل، فسبحان الخالق البديع المُصوِّر!