فاتن فاروق عبد المنعم

اجتمعت حروف العجم والعرب على أصالة أخلاق الفارس عند صلاح الدين، لم يمقته أو يغبن حقه إلا حاقد أو مأجور يبصق عليه من أسياده قبل غيرهم ليبقى الماس ماسا ويبقى الصفيح الصدئ صدئ وكل يختار مقامه دون جبرية أو قهر إلا من مكنون كونه بنفسه عبر سنوات عمره، وعبر هذه السطور القليلة نسترجع ما فعله مع أعداء لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة كما أخبرنا ربنا عز وجل في كتابه الكريم وكان من الممكن أن يفعلوا غير ما وصفهم به في القرآن ولكن أبت نفوسهم إلا أن تفيض بحقيقتها في كل موضع معلنة عن صدق القرآن رغما عنهم.

 

الفضل ما شهدت به الأعداء فهاهو المؤرخ الأمريكي جيمس رستون يقول:

“وهكذا سلك جنود صلاح الدين سلوكا مثاليا في احتلالهم للقدس عام 1187م وقد نظر صلاح الدين لنفسه ولسمعته بعد الانتقام لما فعله الصليبيون قبل ثمانية وثمانين عاما وبسبب لحمايته لكنيسة القيامة وأماكن مسيحية أخرى كثيرة، سيتذكر الجميع تسامحه تجاه أهل الأديان الأخرى، وتجاه الأماكن المقدسة للدين المسيحي ويبدو أن أعماله صارت علما ونموذجا على كيفية سلوك المسلك الصالح، فبسبب عفوه، ووجوه الخير المتعددة في طبيعته وسلوكه تجاه أعدائه، سيظل مشهورا للأبد باللطف والتسامح والحكمة”

 

لاحظ وصفه لصلاح الدين عند تمكنه من القدس “بالاحتلال” هل القدس ولاية أمريكية ولا علم لدينا بذلك؟!

 

ويقول المؤرخ الانجليزي ستيفن رانسمان:

“الواقع أن المسلمين الظافرين اشتهروا بالاستقامة والإنسانية، فبينما كان الفرنجة منذ ثمانية وثمانين عاما يخوضون في دماء ضحاياهم، لم تتعرض الآن دورا من الدور للنهب، ولم يحل بأحد من الأشخاص مكروه، إذ صار رجال الشرطة بناء على أوامر صلاح الدين يطوفون بالشوارع والأبواب يمنعون كل اعتداء يقع على المسيحيين ومن المناظر التي تدعو للحزن والأسى ما حدث من التفاف العادل إلى أخيه صلاح الدين يطلب منه إطلاق سراح ألف أسير على سبيل المكافأة على خدماته له، فوهبهم له صلاح الدين فأطلق العادل سراحهم على الفور، وإذ ابتهج البطريرك هرقل لأن يلتمس هذه الوسيلة الرخيصة لفعل الخير، لم يسعه إلا أن يطلب بعض الأرقاء ليعتقهم، فبذل له صلاح الدين سبعمائة أسير، كما جعل صلاح الدين لباليان خمسمائة أسير ثم أعلن صلاح الدين أنه سيطلق سراح كل شيخ وكل امرأة عجوز، ولما أقبل نساء الفرنج اللائي افتدين أنفسهن، وقد امتلأت عيونهن بالدموع فسألن صلاح الدين أين يكون مصيرهن بعد أن لقي أزواجهن وآباؤهن مصرعهم أو وقعوا في الأسر، أجاب بأن وعد بإطلاق سراح كل من في الأسر من أزواجهن، وبذل للأرامل واليتامى من خزانته العطايا كل بحسب حالته، والواقع أن رحمته وعطفه كانا على نقيض أفعال الغزاة المسيحيين الغزاة في الحملة الصليبية الأولى”

 

من بين من حضروا بين يدي صلاح الدين متلمسة نبله ليعفو عنها راهبة رومية فعفا عنها وخرجت بمالها ومتاعها وصلبانها المذهبة وخزائنها ورجالها ونسائها والصناديق بأقفالها وتبعها من لم يكن يتبعها.

 

زوجة الملك المأسور “كي” كانت مقيمة في جوار القدس مع خدمها وجواريها طلبت من صلاح الدين الإلمام بزوجها الموكل به في برج نابلس حتى يتم تسريحه فسمح لها بالإقامة معه بخدمها وجواريها.

 

البرنسيسة أم هنفري وهي ابنة فيليب وزوجها قتل يوم حطين وأصبحت مكانه بالكرك والشوبك وابنها مأسور حضرت بين يدي صلاح الدين ليطلق سراح ابنها فسمح لها برؤيته ووعدها بإطلاق سراحه عندما تسلم الحصون فمضى معها الأمراء الذين سيتسلمون منها تلك الحصون ولكن أهلها تمنعوا فاستودعت ابنها المأسور صلاح الدين حتى يتم تسليم حصونها.

 

بعض الصليبيين طالبوا صلاح الدين بالبقاء ببيت المقدس ولن يزعجوا أحدا فقبل بعد الالتزام بعقد أهل الذمة ودفع الجزية فأصبح لهم ما للمسلمين من حقوق وعليهم ما على المسلمين من واجبات بالمدينة.

 

(الصليبيون الذين سمح لهم صلاح الدين بالبقاء ببيت المقدس عندما دخلوا هذه المدينة قبل ثمانية وثمانين عاما أعملوا في المدينة السلب والنهب والقتل حتى غاصت كعوبهم وسنابك خيولهم في الدماء المنداحة بالشوارع وأيديهم وملابسهم ملطخة بالدماء حتى أن الرهبان ذهبوا ليغسلوا أيديهم من دماء المسلمين وهم يرتلون مزامير داوود)

 

يقول المستشرق الفرنسي جروسيه: “بعكس الصليبيين نفذ صلاح الدين وعوده بشرف وبشعور إنساني وبروح فروسية مما أثار إعجاب المؤرخين اللاتين الذين سردوا أحداث تلك الفترة، وطلب بعض المتعصبين من صلاح الدين هدم معابد المسيحيين وتدمير كنيسة القيامة بهدف إلغاء حج المسيحيين “المؤمنين بالثالوث المقدس”.

 

فصدهم عن ذلك بكلمة منه قال: لماذا الهدم والتدمير طالما أن هدف عبادتهم هو مكان الصليب والقبر المقدس وليس البناء الخارجي؟ وحتى لوسويت الأبنية بالأرض فإن مختلف الطوائف المسيحية لن تتخلى السعي للوصول إلى هذا المكان، لنفعل إذن كما فعل عمر بن الخطاب الذي احتفظ بهذه الأبنية عندما فتح القدس في السنوات الأولى للإسلام.

 

إن ما يتحلى به هذا السلطان العظيم من حرية الرأي والمعتقد يبرز في هذه العبارة الجميلة”

إن أخلاق صلاح الدين وخلاله كانت محط إعجاب ملوك الغرب وقواده حتى إن جحافل جيوش الفرنسيين التي حلت إلى الشام كانت تقول أن دماؤه دماء فرنسية، أما الإنجليز والإيطاليين فكانوا ينسجون القصص والمسرحيات عن أخلاق صلاح الدين وينسجون حوله الأساطير وكأنه أعجوبة وعنه قال أحد المؤرخين الأوروبيين: “سيظل في الذاكرة أن ذلك الزمان الدموي القاسي لم يتمكن من إفساد إنسان ذي سلطة عظيمة، إنه صلاح الدين”.

 

في عام 1899م حضر إمبراطور ألمانيا إلى بلاد الشام وكانت معه الإمبراطورة، وقد خطب خطبة أشاد فيها بصلاح الدين، وأرسلت الإمبراطورة أكليلا من الزهور ليوضع على قبر صلاح الدين.

 

اختلاف صلاح الدين مع الخليفة العباسي

 

الإلمام بجوهر الأشياء وتقدير القيمة والقامة الحقيقية لهو من صفات كل فطن، قويم النفس سليم القلب، يخلو قلبه من العطب الذي يشقيه لأنه في لحظة فارقة ينهار التماسك الهش وتسفر النفوس عما تؤويه من شقائها المحقق، وبطل الأمة في كل زمان ومكان صلاح الدين مع كل الإبداع العسكري وما حققه من أمجاد سطرت بأحرف من ذهب لم يمتلكه يوما ما في حياته فقد برز له غيرة وحقد دفين من كثر وهذا طبيعة العاجزين والفشلة الذين يرمون النبغاء بما ليس فيهم ربما طمسوا على أمجادهم التي تزاحم نور الشمس.

 

فبعد انزياح الغمة وعلو رايات النصر خفاقة أرسل صلاح الدين إلى كافة الأمصار يزف إليهم بشريات النصر المحقق ليبتهج المسلمون في الأصقاع بالنصر المبين، فكان خليفة المسلمين في ذلك الوقت هو الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن، فقد أوغر صدره إطلاق لقب الناصر لدين الله على صلاح الدين ورماه بما ليس فيه بأنه يسعى للاستئثار بتلك الكنية التي هي صفته وكنيته هو ثم وارى ما يكنه صدره بعتابه لصلاح الدين أن الرسول الذي أرسله إليه ليزف له البشرى هو شخص وضيع لا مقام ولا قيمة له ثم ذيل العتاب بشكواه.

 

فتبقى النبيل سليل النبلاء رسول الخليفة بكل حبور ولم يظهر إلا السمع والطاعة للخليفة واعتذر بمنتهى اللطف عن ما تسبب للخليفة من أذى نفسي وأن كنيته بالناصر لدين الله أطلقت عليه منذ الخليفة المستضيء (يأبى صلاح الدين إلا أن يبهرنا في كل موقف مهما كان بسيطا)

 

كم من أشخاص أطلقوا الألقاب والكنيات المجانية على أنفسهم أو عن من يحبون فإذا واراهم الثرى توارت هذه الكنيات معهم إلى غير رجعة فلو سألنا ما يقرب من مليارين من المسلمين عن اسم هذا الخليفة العباسي فلن يعرفه إلا خاصة الخاصة من الذين يعملون في الدوائر الأكاديمية بينما صلاح الدين شمعته موقدة أبد الدهر.

وللحديث بقية إن شاء الله.

فاتن فاروق عبد المنعم

من فاتن فاروق عبد المنعم

كاتبة روائية وعضو اتحاد كتاب مصر