د. ممدوح المنير

أوشكت الشمس على المغيب واستيقظت على أصوات همهمات و أيدي تهزني كي تعرف إذا كنت لازلت على قيد الحياة أم لا، نظرت بعين زائغة فيمن حولي، كان عدد من المعتصمين قد انحنوا عليّ لفحص مكان الإصابة، «الحمد الله لسه عايش» سمعتها بصعوبة وأنا استعيد وعيي وبعد السلامات والدعوات منهم ولم أكن أعرفهم، أوقفوني واستندت بزراعيّ على إثنين منهم وقالوا لي سنبحث عن أحد ينقلك إلى خارج الميدان فإصابتك بالغة.

 

وأخذوا يبحثون عن أحد معه دراجة نارية «موتوسيكل» لينقلني عليه، وكان هناك عدد من المعتصمين يتطوعون بنقل المصابين إلى الخارج بهذه الطريقة رغم ما في ذلك من خطورة عليهم وقد استشهد بالفعل عدد منهم برصاص القناصة جراء ذلك.

 

علمت منهم أنّهم بعد إطلاق النار عليّ قد حسموا أمرهم للخروج كتلة واحدة بسرعة من «الممر الآمن»، وبالفعل بدأنا الحركة وأنا أتحرك بصعوبة مستندا عليهما، وكان بعضهم ونحن نمشي يصيح مكبرا وهو يبكي وآخرون يشيرون  بأيديهم للقناصة في تحدي.

 

كانت العواطف جيّاشة والدموع رقراقة، فهم يتركون خلفهم عالمهم الجميل وقد أصبح خرابا، يتركون أحبتهم وإخوانهم وقد غيّبهم الموت في كل مكان، يتركون مصابين يتلوّون ألما لم يستطيعوا الوصول إليهم بسبب شدة إطلاق النيران، لقد كنّا نودع شهدائنا دون أن ندفنهم ومصابينا دون أن نداوي جراحهم، كنّا نودّع مدينتنا الفاضلة الطاهرة.

 

وبينما نحن على هذا الحال ظهرت دراجة نارية فنادوا على صاحبها وطلبوا منه أن يحملني عليها ولم يتردد وأجلسوني خلفه ثم جلس ثالث خلفي حتى لا أسقط فقد كنت في حالة إعياء شديد والنزيف لا يتوقف.

 

وبدأنا نتحرك وسط الحشد المتحرك حتى شارفنا على النهاية فرأينا قوّات الموت تقف على الجانبين بمدرعاتهم وعرباتهم وأسلحتهم مصوبة إلينا وفي أحد شرفات المنازل المطلة على الطريق لمحت كاميرات تصوير كبيرة من التي تستخدم في القنوات الفضائية، فعلمت أنهم لن يطلقوا النار علينا لزوم «اللقطة» التي سينشرونها في وسائل الإعلام  من أنّ الممر آمن وأنهم لم يتعرضوا لأحد.

 

أعطيت هاتفي للرجل خلفي وكان الله قد هداني إلى شراء بطارية احتياطية له وضعتها قبل أن أصاب بفترة وجيزة، وطلبت منه الاتصال بأهلي فقد اتصلوا عليّ كثيرا للاطمئنان ولم استطع الرد عليهم، كلّم الرجل زوجتي وقال لها إنّ زوجك مصاب وينزف كثيرا وقد تحتسبيه عند الله شهيدا فلا يوجد مكان نعالجه فيه، حاولت أن أتكلم وأعاتبه على ما قاله لها لكن لم استطع من شدة الإعياء.

 

حاول صاحب الدراجة النارية البحث عن مستشفى أو أي مكان يستقبلني لكن كانت كمائن الجيش والشرطة في كل مكان تبحث عن أي أحد خارج من الميدان لتعتقله أو ترديه قتيلا وبالفعل أطلقوا النيران علينا في أكثر من كمين و لكنّ الله سلّم.

 

وجدنا مستشفى فذهبنا إليها واستوقفنا الأمن الخاص بها وعندما علم بإصابتي قال انتظروا هنا، فعلمنا أنه ينوي الغدر بنا وأنه سيسلمنا للجيش وتحركنا فورا مبتعدين عن المكان، مضى أكثر من ساعة على هذا المنوال ونحن في دائرة مغلقة، فقد كان المجرمين قد أغلقوا محيط ميدان رابعة كاملا بالكمائن الثابتة والمتحركة، كما أن صاحب الدراجة النارية ليس من القاهرة ولا يعرف أين يذهب؟

 

قرر الأخ الذي يقود الدراجة أن يتوقف وأقترح أن يتركني في جانب الطريق حتى يتحرك بحرية إلى أن يجد أحد يسعفني وترك معي الأخ الذي كان يجلس خلفي، لكني طلبت منه أن يذهب معه ويتركني وحيدا و حلفت عليه و قلت له سأتصل بمن يأتي ويأخذني وبعد أخذ ورد تحركا و تركوني وجلست على الأرض أنتظر ما يفعل الله بي.

 

ثم رأيت من بعيد مجموعة المعتصمين قادمين من بعيد في اتجاهي بعد أن خرجوا من الميدان راجلين فلا توجد مواصلات فقد كانت المنطقة مغلقة بسبب الكمائن، وعندما اقتربوا منّي وجدت أنّهم من الأخوة الأفاضل الذين كنت معتصما معهم فأقبلوا عليّ و بعد السلامات والاطمئنان عليّ، تطوّع أحدهم بالبقاء معي وأن يتحرك الباقي لأن أي تجمع سيلفت انتباه الظلمة وسنعتقل جميعا أو نقتل.

 

قال لي الأخ الذي بقى معي سنوقف أي سيارة ونطلب منهم نقلك إلى أي مستشفى آمن حتى نوقف النزيف وكان قد مضى نحو ثلاث ساعات على إصابتي، وفعلا بدأنا نشير للسيارات حتى مضت نصف ساعة ولا يقف أحد.

 

وفي النهاية توقفت سيارة فيها شابين ملتحين في أواسط العشرينيات وكلمهم الأخ المرافق لي وقال لهم معي مصاب من الفض ونريد نقله إلى المستشفى ووافقا فورا وعلمنا أنهما عندما علما بالفض وشاهداه على التلفاز نزلوا إلى الميدان للمساعدة بسيارتهم لنقل الجرحى وشاءت إرادة الله أن يجمعنا معا.

وكان الكثير من أهالي المنطقة التي كان فيها الاعتصام قد حاولوا المساعدة سواء باستضافة معتصمين في بيوتهم حتى تنتهي الأزمة  أو إسعاف الجرحى.

 

وبالفعل أطلق الرصاص علينا في كمائن وأوقفنا في ثلاث منهم على ما اذكر، واحد منهم تفحص السيارة من بعيد ثم أمرنا بالانصراف، وكمين ثانٍ يقف فيه بلطجية بالسيوف والأسلحة البيضاء، ففي مصر «الشرطة والبلطجية إيد واحدة» وسألونا هل معكم مصابين؟، فقال الأخ لا، وفتشوا السيارة دون أن ننزل منها ونحن جميعا نذكر الله حتى يعمي أعينهم عنّا وتركونا بالفعل.

 

ثم جاء الكمين الأخير وكان كمين بلطجية كذلك، وسألوا هل معكم أحد من المعتصمين أو المصابين؟، فقال لهم لا، فطلبوا منّا جميعا النزول من السيارة فورا لتفتيشنا وهم يلوّحون بالسيوف والأسلحة البيضاء وفتحت الباب ولم أكن أقدر على النزول من السيارة بسبب تعبي فكنت قد دخلت في الساعة السادسة وأنا أنزف دون توقف، فشكّوا في أمري وجاء إثنين منهم ناحيتي وأعينهم تحمل نظرات شرسة واقتربوا من الباب وطلبوا مني النزول فورا، وهممت بالنزول وكانت المفاجأة!!

 

تستكمل بإذن الله

من د. ممدوح المنير

مدير ومؤسس المعهد الدولي للعلوم السياسية والاستراتيجية، خبير دولى فى مجال التنمية البشرية