قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا عن غزوة تبوك

قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} التوبة/119

 

ذكر الله تلك الآية الكريمة تعقيبا على قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا عن غزوة تبوك، فصدقوا في توبتهم لله بعدما صدقوا في قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنجاهم الله بالصدق وتاب عليهم وأنزل توبتهم في كتابه العزيز قرآنا يُتلى إلى يوم القيامة.

 

فالصدق خلق عظيم من أخلاق ديننا الحنيف، وقد ذكر الله الصدق والصادقين في كتابه مادحا لهم ومبينا عاقبتهم الحسنى، ومن ذلك قوله تعالى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا، لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} الأحزاب/23-24.

 

وقوله جل وعلا {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} المائدة/119.

 

وقوله تعالى {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} آل عمران/16-17.

 

وقوله عز وجل {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} الأحزاب/35.

 

هكذا الصدق يهدي إلى البر والجنة كما في الحديث الشريف عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه “علَيْكُم بالصِّدْقِ، فإنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وإيَّاكُمْ والْكَذِبَ، فإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الكَذِبَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذّابًا” أخرجه البخاري (6094)، ومسلم (2607).

 

ومن الصدق الصدق في توحيد الله والشهادة لرسوله بالرسالة كما في الحديث ” ما مِن أحَدٍ يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِن قَلْبِهِ، إلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ علَى النَّارِ” رواه البخاري/128.

 

وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصدق من علامات الايمان، ففي الحديث عن عبد الله بن عمرو قال: ” قيل لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ أيُّ الناسِ أفضلُ قال كلُّ مخمومِ القلبِ صدوقِ اللسانِ قالوا صدوقُ اللسانِ نعرفُه فما مخمومُ القلبِ قال هو التقيُّ النقيُّ لا إثمَ فيه ولا بغيَ ولا غِلَّ ولا حسدَ” صحيح ابن ماجه/3416.

 

وجعل الكذب من علامات النفاق ففي الحديث عن عبدالله بن عمرو “أربَعٌ مَن كُنَّ فيه كان مُنافِقًا، وإنْ كانت فيه خَصلةٌ منهنَّ كانت فيه خَصلةٌ مِن النِّفاقِ حتَّى يدَعَها: مَن إذا حدَّثَ كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا خاصَمَ فجَرَ، وإذا عاهَدَ غدَرَ” أخرجه البخاري/2459، ومسلم/58.

 

وفي الحديث أيضا عن أبي هريرة ” آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ”رواه البخاري/6095.

 

ويكون الكذب أشد وأقبح من الكبار الذين يحكمون الناس ويسوسونهم، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ ولا يَنْظُرُ إليهِم، ولَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ: شيخٌ زانٍ، ومَلِكٌ كَذّابٌ، وعائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ”رواه مسلم/107، وذلك لأن الناس ينظرون إلى كبرائهم نظرة القدوة فيتعلمون منهم ويتشربون من أخلاقهم.

 

وبالمثل فليس الكذب من الأب مثلا كالكذب من الابن، فالأب يسوس عائلته وهو راعيها ومعلمها ومؤدبها فقبيح بمن هذا شأنه أن يكذب فيتعلم أبناؤه منه تلك الأخلاق الذميمة

 

والصدق يكون  في التعامل بين الناس بيعا وشراء ومعاهدة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” البَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما، وإنْ كَذَبا وكَتَما مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِما” رواه البخاري/2079، ومسلم/1532.، والبيعان هما البائع والمشتري، فصدق البائع عدم الغش وتبيين السلعة وإظهار عيوبها إن كان بها عيبا، وصدق المشتري هو عدم غبن البائع وبخس بضاعته ليرخص سعرها.

 

وفي الحديث أيضا (التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مع النَّبيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهداءِ) رواه الترمذي / 1209.

 

ولذلك سأل الأنبياء والصالحون ربهم أن يرزقهم الصدق في القول والعمل، ومن ذلك قوله تعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} الإسراء/80، وقوله على لسان إبراهيم عليه السلام {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} الشعراء/84.

 

وقال سبحانه عن أنبيائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} مريم/50.