رانيا مصطفى

الإسلام البروتستانتي (2).. بعد موجات النفي من أوروبا التي تعرض لها اليهود، لجأ كثير منهم إلى الدولة العثمانية التي منحتهم كامل الحريات الدينية، والاجتماعية، والسياسية، كما سمحت لهم بالعمل بالتجارة، وبالمجالات المهنية الأخرى، فتحسنت أوضاعهم لدرجة أنهم قدموا القروض إلى القصر العثماني في القرن السادس عشر، ما أكسبهم نفوذًا كافيًا لاختراق السلطة السياسية. بواسطة اليهود تسرب تيار الصهيونية إلى الإمبراطورية العثمانية من أوروبا خلال القرن التاسع عشر، وحظي منها بدعم معنوي ومالي كبير، وكان ينظر إلى السلطان عبد الحميد الثاني بوصفه تهديدًا له، ولذلك تعاون مع جماعة الشباب الأتراك التي كانت تهدف إلى الإطاحة به. أطلق على اليهود الأتراك مسمى «يهود الدونمة»؛ لأنهم يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية؛ ويقال إن منهم من هاجر إلى شبه الجزيرة، وكانت لبعضهم بصمات في نشأة الدولة السعودية.

 

كان التحضير لقيام الدولة السعودية إيذانًا بتغيير النظام العالمي، وبقيام خلافة جديدة؛ وكأن هناك من كان يريد استحداث مذهب أرثوذوكسي إسلامي يقوم على الحديث الأوحد باسم الإله، ويضيق براح الشريعة إلى مجموعة أحكام محددة بعينها تطبق بغلظة، ويتزاوج مع ثروات كانت وما زالت تتركز في أيدي الساسة من ملوك وأمراء لا يصل منها لجيوب العامة إلا النذر اليسير، ليعيد بهذا المشهد إلى الأذهان صورة عصور ظلام أوروبا. كانت بريطانيا تتوغل بعلاقاتها مع قبائل وأقاليم الجزيرة بعد هزيمتها أسطول القواسم؛ ويبدو أنها وجدت مأربها فدفعت بأمير طموح ليدعم شيخًا متحمسًا لدعوته، لتزرع نظامًا ثيوقراطيًا لم يكن موجودًا بالمنطقة، ترسم به طريق ثورة مستقبلية تفرض به سيطرتها على أراضي الإمبراطورية العثمانية؛ في نفس الوفت، لجأت فرنسا إلى زرع محمد على بمصر، بعد فشل حملتها عليها ليعرقل نجاح مخطط إنجلترا بالجزيرة.

 

قامت الدولة السعودية الأولى على يد محمد بن سعود أمير الدرعية – الذي كان يعد في نظر السياسة العثمانية أحد الموظفين المحليين التابعين لإيالة الأحساء – تحت غطاء شرعي منحه له الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مقابل أن يقوم الأمير بنشر دعوته القائمة على المذهب الحنبلي في الجزيرة. لم تعترف الحركة الوهابية بسياسة العثمانيين التي كانت تقوم على مذهب الحنفية، فتوسعت في مناطق نفوذها وولاياتها، بل تمددت إلى العراق، والشام، وشرق الجزيرة العربية. ظلت الدعوة متوارثة في ذرية آل سعود وآل الشيخ، واستمر ميثاقهما يحفظه أبناؤهما حتى يومنا هذا. تولى عبد العزيز بن محمد بن سعود، الذي مثل قيام الدولة السعودية الثالثة، برعاية وحماية بريطانية داعمة له.

 

هكذا، استطاع الغرب صناعة مشهد أرثوذوكسي إسلامي سعودي يرى نفسه الفرقة الناجية وكل من سواه من أهل الجحيم، كما استطاع غرس صورة كاثوليكية للعصر العثماني في رءوس الأجيال الجديدة ترسخ تخلفه وظلاميته وتمهد لانشقاق إسلامي على غرار انشقاقات الكنيسة بأوروبا. تزامن مع صعود النموذج السعودي البريطاني، بزوغ نجم التغريب والحداثة الفرنسي في مصر عبر بعثات محمد على التعليمية لأوروبا وفرنسا بالذات، والتي عاد أغلب من منحوها ناقمين على الأوضاع الفكرية والدينية في بلادهم، ومشمرين من أجل التغيير. حاول محمد علي إطلاق إصدار وسطي جديد للأزهر يمرر نسخة لوثرية (بروتستانتية) مخففة من الإسلام المتشدد (الأرثوذكسي) الناشئ في الجزيرة، والفكر السني العثماني (الكاثوليكي) المتعارف عليه في مصر.

 

قدم محمد علي نموذج إسلام فرنسي خلال فترة حكمه، مثل تمهيدًا وبداية لنشر الفكر التنويري، وبث روح القومية التي سرت في جسد الأمة، ومهدت لقبول انهيار الخلافة الإسلامية، وجريان العلمانية في عروق المسلمين؛ واشتداد النعرات التي قبلت بتقسيم سايكس – بيكو بكل أريحية.

 

بعد الانقلابات العربية التي بدأها ضباط مصريون في عام 1952، وصل الإسلام إلى محطة العلمنة التي سبقته إليها مسيحية، ويهودية أوروبا. اعتبر زعماء الانقلابات أنفسهم روادًا للإصلاح الديني في المنطقة؛ إلا أنهم في حقيقة الأمر كانوا – وما زالوا – يروجون للعلمانية الفرنسية بظاهر متدين، وباطن خاو، خشية مواجهة الجماهير؛ فحاولوا هدم أركان الإسلام وتحريف عقائده بدعوى التجديد.

 

بدأ موسم حصاد العلمانية بعد انقلاب عسكر مصر في 2013، حيث اهتم المنقلبون بحبس وقتل واتهام كل من يحمل صورة صحيحة للإسلام، و«تقفيل» دعاة في مصانعهم الحربية يدينون لهم بالولاء، ويحللون حرامهم؛ فمثلًا حول سفاح مصر منارة الأزهر إلى كيان معتكف متعلمن مهمته مباركة أعماله، والتأكيد في كل مناسبة على فصل الدين عن السياسة؛ كما وصم مليار ونصف مسلم بالإرهاب، ودعا دول العالم لمحاربتهم؛ وأيضًا تسبب منشار الجزيرة في رسم صورة دامية لأرضها الطاهرة، ليصرخ المسلمون بأنفسهم مطالبين بتدويل مكة والمدينة، وتحويلهما إلى جزيرتين معزولتين كالفاتيكان.

 

قام حكام البلاد العربية بتفريخ أجيال من المسلمين البروتستانت تهاجم عقيدتها وتجهل تاريخها، لا تحمل سوى أفكار سلبية عن قدراتها وأصولها،وتشعر بالضعة أمام كل منتج فكري أو ثقافي غربي، حتى أنها استبدلت ألفاظها العربية بأجنبية خجلًا من انتمائها لأرض لا ترى لها فضلًا؛ فأصيب الجسد العربي بأمراض المناعة الذاتية فصار مواطنوه لا يفرقون بين خلاياه الأصيلة، وفيروسات العدو التي تسحق أحلامه وتقتله بؤسًا، وفقرًا، وجوعًا، ومرضًا.

 

لم تكن المؤامرة على الإسلام وحده؛ بل كانت على كل رسالة سماوية، فالدين حين يكون صحيحًا يرسم تخطيطًا سليمًا لحياة البشر، يخلق مرجعية فكرية ومقياسًا للصواب والخطأ، وبغيابه يتخبط الناس ويكونون فريسة سهلة لكل مستغل هيجته الأطماع، سواء كان فردًا، أو دولة، أوجماعة سرية. إن المقصود من سحب بساط جاذبية الدين من تحت أقدام البشر، أن تخف روحهم، ويضيعوا في فضاء الكون المادي.

 

ولمن يرجعون فكرة (الحرب على الإسلام) لنظرية المؤامرة أقول: بالفعل تقوم الحروب من أجل السيطرة لأغراض مادية بحتة؛ لكن كل قوة عالمية غاشمة تحتاج دائمًا وبشدة لغطاء ديني لتحصل على دعم ومؤازرة العامة، لذا تقوم بطمس مكونات عقدية وتبرز أخرى، ثم توجهها نحو أهدافها، وتجمع جنودها تحت رايتها؛ وفي نفس الوقت، تقوم بالعبث بعقيدة العدو المستهدف بالهجوم، لينحل رباطه الديني الذي يمثل عنصر قوة تلاحم صفوفه. ربما لا يدرك البعض أن الهروب من نظرية المؤامرة قد يكون هو في حد ذاته مؤامرة.