رانيا مصطفى

 

يعرف «التطبيع» سياسيًّا كمصطلح يشير إلى جعل العلاقات طبيعية بعد فترة من التوتر أو القطيعة لأي سبب كان؛ أما فلسطينيًّا، فيُعَرِّف بأنه محاولة نفخ روح سلام في جثة مسخ عربي إسرائيلي مرقع ليتصرف كما الأحياء.

 

رأى زئييف جابوتنسكي، مؤسس اليمين الصهيوني، في مقاله «الجدار الحديدي»، وجوب صهر الوعي العربي من خلال القوة بإخضاع العرب لهزائم مستمرة، إلى أن يقتنعوا باستحالة هزيمة «إسرائيل»، وهكذا يضطرون للتعايش معه أمرًا واقعًا غير قابل للتغيير؛ وعلى النقيض، اعتمد ديفيد بن غوريون العمالي، عدو جابوتنسكي التاريخي داخل الحركة الصهيونية، على مبدأ الردع، بمعنى إقناع العرب بعدم جدوى مهاجمة «إسرائيل» عسكريًّا لأن ذلك لن يحقق أهدافهم بل سيؤدي لخسائر كارثية؛ تقود نظريتي الرجلين إلى استنتاج أن عملية التطبيع قائمة في جميع الأحوال، وأن الخلاف يدور فقط حول هوية الحزب الذي سيحصد المكاسب.

 

لفهم أساس الخلاف بين اليمين الصهيوني واليسار الاشتراكي بالكيان المحتل، لا بد من الإبحار في رحلة عبر تاريخ احتلال فلسطين، لاستكشاف أسباب اختيارها وطنًا قوميًّا لليهود، ولتفسير كيف يصب رفض التطبيع العربي الإسرائيلي الرأسمالي في مصلحة تطبيع عربي إسرائيلي اشتراكي مضاد؛ لنبدأ:

 

مرت بريطانيا وفرنسا بتاريخ طويل من الصراعات كانت أقواها حرب السنوات السبع (1756- 1763 م) التي وصفها تشرشل بأنها أول حرب عالمية، وقد انتهت بأن أصبحت بريطانيا الدولة الاستعمارية الكبرى في العالم، بعد أن ورثت مستعمرات فرنسا في أمريكا الشمالية والهند. لم تهدأ فرنسا حتى تمكنت من تأليب المستعمرات الإنجليزية ضد إنجلترا إلى أن أعلنت أمريكا استقلالها في 1775.

 

أرادت فرنسا استعادة إمبراطوريتها، فما كان من نابليون الذي تولى مقاليد حكمها بعد انقلابه في 1799 إلا أن فكر عمليًّا في إنشاء دولة لليهود في فلسطين تكون تابعة لبلاده، طمعًا في مساعدتهم له في حملته لغزو الشرق ليسيطر على طريق إستراتيجي للتجارة، ولينتقم من بريطانيا ويحطم نفوذها هناك.

 

أرسل نابليون حملته للسيطرة على مصر والشام 1798 لكن إنجلترا عرقلته فانسحب في 1801. بالحيلة، استطاعت فرنسا تولية «محمد علي» الألباني حاكمًا على مصر في 1805، فانفصل بها عن الدولة العثمانية جوهريًّا واحتل بلاد الشام؛ ومن هنا بدأ النفوذ الفرنسي ينمو في فلسطين والشرق الأوسط مناصرً للمجتمعات الكاثوليكية، كما بدأ النفوذ الروسي أيضًا بالظهور هناك بوصفه مدافعًا عن الأرثوذكس الشرقيين، لذا احتاجت بريطانيا أن تخلق من تحرسه في هذه المناطق فدعمت المشاعر المسيحية المتعاطفة مع «إعادة اليهود» إلى فلسطين بين أوساط النخبة السياسية البريطانية في منتصف القرن 19.

 

اقترحت فرنسا مشروع حفر قناة السويس على والي مصر«عباس الأول» لتسيطر على أهم طرق التجارة العالمية، فأفسدت إنجلترا خطتها، وأرسلت قنصلها ليعرض عليه مشروع مد السكة الحديد بين الإسكندرية والقاهرة والسويس بديلًا، فمال الوالي ناحية المشروع الإنجليزي.

 

استطاعت فرنسا خلال حكم «سعيد باشا» أن تنتزع موافقة الدولة العثمانية، وتسدد ضربة موجعة لإنجلترا 1854 بالحصول على امتياز حفر قناة السويس وتشغيلها لمدة 99 عاما.

 

ساهمت هزيمة فرنسا المروعة في حروبها النابليونية التي كبدتها خسائر مادية وحربية وسياسية فادحة في انكسارها واحتياجها الشديد لمساندة إنجلترا، فلم تستطع إلا الصمت المكره أمام اختطاف الأخيرة لصفقة شراء نصف أسهم قناة السويس عام 1875.

 

نتيجة الانتصارات الفرنسية إبان الحروب النابوليونية، انتشرت مبادئ المساواة فى عدد من البلدان ما أدى إلى تحرير اليهود. ينظر يهود ألمانيا بالخصوص إلى نابليون كأحد رواد تحريرهم. تنامت في فرنسا أعداد اليهود السفارديين والمزراحيين النازحين من آسيا وشمال أفريقيا، ما جعل مصالحهم تسير في اتجاه معاكس لطريق اليهود الأشكيناز الذين يمثلون الأغلبية السياسية في غرب أوروبا وأمريكا، وهذا يفسر انشقاق المعسكر الغربي في التعاطي مع القضية الفلسطينية. يعد النفوذ اليهودي في فرنسا هو الأكبر في أوروبا والثاني في الترتيب على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة.

 

عانت بريطانيا من صراع عنيف تولد من تسلل الأفكار الثورية الاشتراكية القومية الفرنسية إليها، ما أثار عواصف الإصلاح الديني أثناء الحروب النابليونية وبعدها في أوروبا كلها، ومن بعدها اندلع إعصار ثورات الربيع الأوروبي منذ 1848 الذي لم تصمد أمامه سوى ملكيات قليلة كان على رأسها النظام الملكي البريطاني الذي استطاع امتصاص ضربات فرنسا القوية عبر استحداث نظامي دين وحكم مزجا ما بين القديم والحديث.

 

في 1904 وقعت كل من فرنسا وبريطانيا اتفاقًا وديًّا لإنهاء حالة التسوية المؤقتة بينهما منذ نهاية الحروب النابليونية، منح الاتفاق إنجلترا حرية التصرف في مصر، وفرنسا حرية التصرف في المغرب.

 

فشلت فرنسا (1905م) في تمديد امتياز تشغيل قناة السويس لمدة 50 عامًا أخرى؛ وفي العام نفسه قامت الثورة الروسية لتعلن عن تغيير سياسي عالمي قادم، بعد أن تسرب خليط من ماركسية يهود ألمانيا واشتراكية يهود فرنسا إلى روسيا، ثم ما لبثت أن تحولت إلى البلشفية في 1917 وحاربت الإمبريالية والرأسمالية الغربية، فتشاركت وفرنسا المهزومة في حروبها الأهداف نفسها.

 

مع بداية ثمانينيات القرن العشرين كان ثلث سكان العالم يعيشون تحت حكم أنظمة شيوعية. كونت فرنسا إمبراطورية ظل عبر ذراعها الاشتراكي في الإمبراطورية الروسية وكل الدول التي تأثرت بأفكارها، كان نفوذها يخضع لفترات قوة وضعف بحسب استطاعة إنجلترا تجنيد أو التأثير في صانع القرار داخل هذه الأنظمة.

بعد إعلان الحرب على الدولة العثمانية في 1914، بدأ مجلس وزراء الحرب البريطاني في النظر إلى فلسطين، بهدف تأمين طريق مختصر آخر للتجارة العالمية غير قناة السويس وهو طريق حيفا- الخليج العربي.

 

في 1916 عقدت فرنسا وإنجلترا اتفاق سايكس بيكو السري الذي قضى بتقسيم الأراضي العربية بينهما، وإقامة إدارة دولية في فلسطين؛ حتى هذه المرحلة لم تجر أي مفاوضات نشطة مع الصهاينة، ولكن سايكس كان مدركًا للصهيونية فكتب في رسالة خاصة: «برأيي الصهاينة الآن هم مفتاح الوضع». وبحسب تصريح حاييم وايزمان: «كان الصهاينة يفضلون فرض الحماية البريطانية على فلسطين بدلاً من الأمريكية أو الفرنسية أو الدولية».

يتبع.