اللغة العربية

 

نتساءل اليـــــوم عن مكانة اللغة العربيـــة في زحمة اللغات الحية، والحضارات المتجددة، والعلوم المتطورة والآداب، فهل وضعنا لغتنا في الموضع السليـم الذي ينبغي أن تكون فيه؟

وهل عملنـــا على اكتساب أنماط المعارف والثقافات والمناهج العصرية لتجديــد حياتنا، واستخدمنا لغتنا وسيلة للتفكير والتعبير، والبحث، والتعامل والقياس والنظر والتأمل والتطوير؟ وهل استغنينا عن الأساليب العتيقة التي تضيق عن حمل روح العصر ومظاهر التمدين؟

ولكي نكون عقلانيين لاعاطفيين نقول: إننا نعيش في عالم يحترم العقل ويمجده، ويبحث عن الممارسة العلمية والتجربـــة والاجتهاد، ويقرب بين الأجناس البشريـــة والمسافات، فلا مجال للانتظار والعـــالم يسير من حولنا بسرعــــة، وإذا أردنا ترقية لغتنــا فلنبدأ بأنفسنا ونتساءل مرة أخرى هل نحن جادون فعلا وراغبون في ترقية اللغة العربية؟

إذاً فعلينا معرفة خصوصيات هذه اللغة وأسرارها، واستغلال ذلك كله في تطويرها من أجل استيعاب الظواهر العلمية والمنجزات الفكرية والاقتصادية إن اللغــــة العربية هي إحدى اللغــــات السامية القديمة التي لاتزال حية متجددة، بينمــــا اندثرت أخواتهـــا مثل: البابليـــة والآشورية، والآرامية، والكنعانية، وحتى العبرية التي أخرجت من القبر مؤخراً فقد بذل علمـــــاء اللغة اليهود جهوداً مضنية في ترقيتها، وجعلها لغة التعليم والإدارة.

من أهم خصائص اللغة العربية إنها لغة اشتقاقية تشتمل على تراكيب وصــور عديدة تساعد الباحث والمتكلم على الخطاب والتعبير، والترجمة والبحـث والدرس والحوار والمتابعــة، وللأفعال خصوصياتها وكذلك الأسماء والحروف ففي الأفعال صيغ المجرد والمزيد، وزيادة الفعل المجرد بحرف أو حرفين، أو ثلاثة أحرف تعني زيادة في حركة الفعل ودلالته فالفعل المجرد “خرج” يدل على حدث مقترن بزمن، أما أخرج وخرّج واستخرج وتخارج، فإنها تدل على زيادة الجهـد المبذول في فعل الخروج.

وفي الأسمـاء: المصادر، وأنواع الجمع، والمثنى، والتذكيـــر والتأنيث، واسم الفاعــــــــل واسم المفعول، واسم التفضيل، والصفـــة المشبهة، وغير ذلك.

كل هـــــذه التراكيب والاشتقاقات، والأزمنة، والنحت والتوليد والترادف، تمنح اللغة العربيــة قدرة على الحياة والديمومة، واحتــــــــــواء مظاهر العصر، كما تساعدها على صياغة المصطلحات العلميــــــــــة والأدبية، والاقتصادية والصناعية، وغيرها.


إن مظاهر الاستخدام اللغوي للغة العربية ينبغي أن يكون شاملا لكل ميادين الحياة النظرية والعلمية والأدبية والعملية والاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك، وإن الاقتصار على ميدان معين دون غيره من شأنه أن يصيب اللغة بالقصور والإعاقة والتخلف والشلل، وحينئذ يقال إن هذه اللغة عاجزة عن استيعـــاب روح العصــــر، ومظاهر التقـــدم العلمي والتكنولوجي.

 

إن مشكلتنا حقاً هي مشكلة عاطفية ونفسية أكثر مما هي ثقافيةفالنفوس التي تربت على الفرنسية أو الإنجليزيـــة وألفتها منذ الطفولـــة، أصبحت تشكل جزءاً من شخصيتها وذوقها، ونظرتها إلى الحياة والناس والمجتمع وهي ليست مستعدة لتتخلى عنها بسهولة، ولذلك فلامجال أن نسمي هــذه الحالات بصراع الثقافات ، فالثقافات لاتتصارع، بل تتكامــل وتتحاور ، وتتواصل، وتنمو وتزدهر.

 

أما تعدد التجارب والممارسات الأدبية والعلمية، فهي قضايـــا متاحة لكل من يجتهد ، ويفكــــر ويتأمل ، ويجرب ويستنبط ، الخطر الذي يهـدد اللغة العربية في دارهــا وبين أهلها يتمثل في مزاحمة اللهجــات العامية للغة العربيــــة الفصيحة ، واستخدامها كبدائل في بعض وسائل الإعـــلام، والمسرح والفن.

 

إن ذلك يضـــر بسلامة اللغة العربية، ويسيْ إلى ثقافة المواطن، وفهمه وذوقه وإحساسه، كمـــا يضعف لديه الحس القومي والانتماء الحضاري للأمة الواحدة ، أو المجتمع الواحـد، بل يضعف لديه القدرة على الفهـــم والاستيعاب، والتواصــــل مع الآخر، وهو يتابع متحدثاً عربياً من بلــــد آخر يشرح موضوعاً، أو يقــــدم حديثاً بلهجته الشعبية المحلية، وإذاً فخطورة استعمال اللهجـات المحلية تبدو في هذه الخصوصيات المتعددة لها داخل المجتمع الواحد، فنلاحظ اختلافاً واضحـــاً بين لهجة الشمال، ولهجة الجنوب، والشرق والغرب، وهذا تحدٍ آخر يواجه لغتنا ، وامتحان لنا ونحن نضع أقدامنا على أعتاب الألفية الثالثة.


لقد تخلص أجدادنا قديماً من هذه الإشكالية، إشكالية تعدد اللهجات ، حيث استنجدوا بلغة القرآن الكريم ، التي منحت اللغة العربية قوة، كما منحتهـــا كثيراً من الأساليب الجديدة والبليغـــــة والفصيحة، فتوحدت لغة الخطاب والكتابــــة والحوار والبحث.

 

إن دخول اللغة العربيـــة في منافسة اللغات الأخرى في هذه الألفية الجديدة، يتطلب منا نحن أبناؤها الغيورون عليها أن نطور معجمها اللغوي وأن نخلصها من اللغة القاموسية وأساليب التعبيــر والكتابة القديمة ، فهناك حركة تغيير واسعــــة من حولنـــــا : في الاقتصاد والسياسة، والإعلام ، والعلم والأدب، والفن، والإدارة، فينبغبي أن يتبع ذلك تغييـــر وإثراء في المعجـم اللغوي ، في المفردات، والتراكيب والمصطلحات، والدلالات المتجددة، لكي يتــم الربط بين اللغـــة العادية، واللغة الحضارية الجديدة وبين الموروث اللغوي، والفكـري القديم، والأفكار والمفاهيم، والمناهج الحديثة والمعاصرة.