عجيب هذا الفن المسمى أدب الرحلة، ها هو يكتسب كل بضعة عقود مداخل جديدة ومناهج فريدة. لم تعد الرحلة تولد من جهل وعدم بل تسبقها اليوم قدرات هائلة من المعلومات الموسوعية من صور وملفات فيديو وكتب لمؤلفين وربما رحالة سابقين.

ما الذي يمكن أن يضيفه إلينا كتاب يحمل عنوان «أهلا بكين» في الوقت الذي يمكن أن تضغط فيه في محرك البحث بكلمة «بكين» فتأتيك سيول من المعلومات المصورة والمتحركة والناطقة؟

الحقيقة أن مؤلف كتابنا (محمود الشنواني) هو أهم ما سيضيفه إليك الكتاب. الروح التي يرى بها والقراءة التي يشاهد بها الأماكن تجعل كتابه مفيدا وشهيا ومعلوماتيا ونقديا في آن.

مؤلف الكتاب طبيب مصري متخصص في طب الأطفال

وهذا دليل آخر على أن المهنة توجه صاحبها. إذ أنك هنا تتنقل مع الكاتب بتلك الروح التي يتنقل بها طفل مندهش يرى العالم المزركش الملون فتشده المتاحف والتماثيل وألوان الأعلام،

تطرب أذناه لأجراس الصلوات البوذية والكونفوشيوسية، وتستوقفه أدخنة ومذاقات المطاعم والوجبات، رائحة الشاي ، بل ويسمره في مكانه عبير زهور التيوليب النادرة.

من سور الصين العظيم والمدينة المحرمة إلى تحديات الإنسان الصيني المعاصر يأخذنا المؤلف في 260 صفحة رشيقة أنيقة عبر رحلته إلى بكين.

منذ أن يغادر د. محمود الشنواني مطار القاهرة حتى العودة لا يمل القارئ صفحات الكتاب التي أفلت فيها المؤلف من نمطية التلقين أو التعليم أو التفاخر بما رأى ولم يره غيره.

لو لم يخبرنا د. محمود الشنواني في نهاية الكتاب بالفترة التي قضاها في الصين لظننا أنه قضى فيها شهرين أو أكثر وليس أسبوعين فحسب.

السر في تلك الثقافة الموسوعية والتكوين الأدبي لهذا الطبيب الإنسان.

المؤلف مهموم بمصر في كل ما يرى ومع ذلك لم يقع في فخ المقارنة النتي تفسد متعة التجوال في بكين.

روح المؤلف ريشة أرادت أن تتمتع وتشعر وتفهم قبل أن تنقل شيئا للقارئ، وفي هذا تاكيد بليغ على أن الكاتب المبدع يكتب أولا ليستمتع قبل أن يمتع قراءه.

أهم ما في كتاب «أهلا بكين» هو ذلك المزج الرقيق الراقي بين التاريخ والثقافة والجغرافيا.

ومن عجائب هذا الكتاب أنه لا يضم صورة فوتوغرافية واحدة ولا خريطة لمحطات التجوال،

ومع ذلك لا يتوه القارئ في أي فقرة أو صفحة فهو رفيق المسافر ورهين تجلياته الروحية في «بكين» وما حولها.

تسهيلا لقراءة الكتاب الرحلة «أهلا بكين» سأرتب الأفكار في العناوين التالية:

🔹️ خرافة «يخلق من الشبه أربعين»

تنطلق زيارة بكين لدى مؤلفنا من قناعة بأننا وإن كنا في مصر شرقيين ثقافة وحضارة إلا أننا أجهل الشعوب بثقافة الشرق ذاته.

ربما السبب في ذلك أننا ننتمى إلى «الشرق الأوسط» فأغفلنا دروس الشرق البعيد المسمى «الشرق الأقصى».

يستفتح المؤلف رحلته بهذا السؤال المنطقي: ما هذا الحاجز الغامض بيننا وبين الشرق؟ ومن أين أتى؟

وكأن المؤلف يدرب عينيه على تفكيك النكتة التقليدية القائلة بأن وجوه ملايين البشر التي تسكن الصين هي نسخة بالكربون من بعضها البعض،

تلك النكتة التي تجعلنا نتعجب كيف يتعرف الصينيون على بعضهم البعض مع هذا التشابه في سحناتهم ووجوهمم.

اكتشاف التميز في كل إنسان تأكيد على روعة الخلق وعمق الإنسان وتفرده، فلا يوجد إنسان على الأرض يشبه إنسانا آخر وليست مقولة «يخلق من الشبه أربعين» إلا وهم مناف للحقيقة، فببعض الصبر والتأني تتكشف أن كل إنسان بصمة مميزة في ذاته.

🔹️ من أم كلثوم إلى ماو تسي تونج

أول دعوة للعشاء يتلقاها المؤلف في بكين كانت في مطعم «أم كلثوم» حيث يتردد المصريون والعرب،

لا عجب في ذلك فكل الجاليات تصنع لها في المهجر ما يذكرها بالوطن من أغان وموسيقى وأطعمة. الصينيون أنفسهم خلقوا في المهجر الأمريكي الأحياء الشهيرة «شايناتاون».

المحطة الأولى للزيارة لابد أن تكون أشهر ميادين العاصمة بكين: ميدان «تيانمين» أو «بوابة السلام السماوي»،

وهو ميدان فسيح يشرف على معالم رئيسة أهمها قاعة الشعب ومقر الحزب الشيوعي الحاكم والمتحف الوطني فضلا عن أهم معالم الميدان: ضريح ماو تسي تونج.

ينضم المؤلف إلى طابور طويل لرؤية الجثمان المحنط للزعيم ماو، يلحظ المؤلف أن آلاف الزوار هم من الأعمار المتوسطة والكبيرة وندرة لوجود الشباب.

ينتهز المؤلف الفرصة ويعرض لنا آراء مختلفة بشأن الزعيم ماو:

الأجيال الكبيرة تراه حاميا للفقراء وحريصا عليهم، والأجيال الشابة تحاول تجاوزه والتخلص من قبضة الحزب الحاكم لصالح الحداثة والديمقراطية.

يصل المؤلف لحل وسط ورأي جامع بين حسنات وسيئات نظام “ماو تسي تونج” الذي تدين له الصين بأسس قوتها ونهضتها الحالية.

🔹️ الحاجز الذي سقط والحاجز الذي لا يزال

حين يزور المؤلف سور الصين العظيم على الأطراف الشمالية للمدينة لا يحدثنا كثيرا عن تاريخ المكان وتشكيله المعماري

فهذا معروف الآن لدى كثيرين لكنه يلاحظ بألمعية أنه إذا كان السور عمل في الماضي حاجزا بين أعراق (الهان) الصينية وأعراق (الهون) المعادية

فإن هذا الحاجز سقط اليوم بفضل توسع الصين على تلك الأراضي المعادية وضمها.

أما اليوم فهناك حاجز كبير يقف بين الصين والعالم ألا وهو اللغة الصينية.

ليست مصادفة أن الدليل الذي رافق المؤلف في رحلة سور الصين هي سيدة تحمل اسم «جومانا».

ليس في الاسم أي أصالة صينية بل اسم أجنبي قابل لأن يتذكره الزوار.

هذه المرأة الصينية التي تعمل دليلا هي في الأصل معلمة تاريخ مجهولة في مدرسة نائية انتهزت الفرصة وطورت من لغتها الإنجليزية وبدأت تدخل في النشاط السياحي منذ أن تم الاستعانة بعشرات الآلاف مثلها في أولمبياد بكين الشهيرة عام 2008.

تقول «جومانا» لمؤلفنا إن أولمبياد 2008 أعطت فرصة للصينين ليكتشفوا أنفسهم والعالم

ووضعت الصين كلها «في حالة استنفار عام» لأن العالم كله يترقب النظر إلى الصين.

وكان النجاح يعني فرص عمل وآفاق مستقبلية للبلاد. ولم يكن مسموحا بالفشل.

🔹️ بكين..مدينة المتناقضات

من لم يزر «معبد السماء» لم يزر بكين، لذلك يأخذنا المؤلف إلى ذلك الموقع الإمبراطوري الذي يعود تأسيسه لأكثر من خمسة قرون مضت.

وبدلا من سرد التاريخ بطريقة مدرسية يلجأ المؤلف لحيلة أدبية راقية إذ يتخيل نفسه

وقد ولد قبل خمسة قرون وتعلم هنا وأصبح في عام 1557 موظفا في الحاشية القريبة من الإمبراطور الموصوف بأنه «ابن السماء»

تلك الصفة التي تجعل من الحكام والأباطرة عرقا مقدسا ينتسب للآلهة السماوية لا من عموم البشر.

بهذه الحيلة الأدبية نتجول مع المؤلف في وظيفته النافذة (كاتب رسائل الإمبراطور بن المساء)

ونرى معه الأجواء الإمبراطورية قبل قرون بعيدة مضت.

تشبه الصين مصر في أنها أرض التناقضات،

والعاصمة بكين ليست استثناء. وهذا ما تجده من زيارة المنطقة الإمبراطورية «المدينة المحرمة».

تغير الزمن ولم تعد هذه الحدائق الفسيحة من المدينة الإمبراطورية التي حرمها الأباطرة «محرمة» على عوام الشعب

بل أصبحت في العصر الحديث مفتوحة للزيارة للبسطاء والأثرياء: أبناء البلد والزائرين الأغراب على حد سواء.

يستشهد المؤلف بمقولة لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق «هنري كيسنجر» الذي قال حين زار المكان:

«نستطيع في الولايات المتحدة بناء مثل هذه الأبنية المهيبة لكننا لا نستطيع أن نزرع تلك الأشجار التي يعود عمرها لقرون بعيدة مضت».

في مقابل الأبنية الإمبراطورية وعلى الضفة الأخرى من الطريق يمكن زيارة بكين

التي لا تعرفها أو بكين الأخرى «بكين ذات الأزقة الضيقة Hutong» حيث ملايين البشر يعيشون في أزقة صغيرة متكدسة.

🔹️ قرن المذلة

في رحلة قصيرة خارج العاصمة وفي الاتجاه الجنوب الشرقي نحو البحر الأصفر يزور المؤلف مدينة «تيان جين Tian Jin»

وهي المدينة الساحلية والمرفأ والنافذة التي تطل من خلالها بكين على المحيط الهادئ.

يعقد المؤلف مقارنة سريعة بين «تيان جين» وكل من أسوان ومدن القناة والأحياء العتيقة في القاهرة.

فهذه المدينة تجمع بين عمارة تعود للقرن 15 وأبراج حديثة.

تيان جين هي أيضا جرح في قلب الصين إذ هي شاهد عيان على المعاهدة

التي تم بموجبها إذلال الصين في عام 1860بعد هزيمتها على يد القوى الاستعمارية (بريطانيا والدول الصناعية) في الحرب المسماة بـ«حرب الأفيون الثانية».

ولأن اليابان استغلت الضعف الذي وقعت فيه الصين أمام انجلترا

فقد سارعت باحتلال مساحات واسعة من الأراضي الصينية

وعاشت الصين قرنا من المذلة بسبب الهزيمة أمام الأطماع الاستعمارية وذلك بداية من 1839 مع حرب الأفيون الأولى.

ولم ينته «قرن المذلة» إلا في أكتوبر 1949 مع صوت الزعيم ماو تسي تونج وهو يعلن قيام جهورية الصين الاشتراكية الشعبية.

🔹️ كل هؤلاء البشر!

السؤال الذي لا يغيب عن مؤلفنا ولا يفارق أحدا في مقارنة مصر بالصين:

كيف نجحت الصين في إدارة كل هؤلاء البشر؟ كيف تفعل مع كل هذا الزحام؟

الإجابة بسيطة للغاية وصعبة للغاية: النظام؛ وحسن التدبير؛ والرقابة الحاسمة؛

والعمل الذي لا يتوقف الذي يجعل بكين مدينة نظيفة جميلة منظمة غير مزدحمة متدفقة ونابضة.

 ***

كتاب «أهلا بكين»

صدر عام 2015 في 260 صفحة عن «دار صفصافة» في القاهرة، من تأليف الطبيب والأديب د. محمود الشنواني.

د. عاطف معتمد

من د. عاطف معتمد

أستاذ الجغرافيا الطبيعية بكلية الآداب جامعة القاهرة.