د. وليد عبد الحي

بعيدا عن الذرائعية التاريخية، أو التحجر الأيديولوجي أو العقائدي، أو أسر الصور الذهنية للأخر، أدعو واستنادا لمنظور براغماتي محض إلى أن تعيد الدول العربية  دون استثناء  تقييم شبكة علاقاتها الدولية وتحديد اصطفافها الدولي استنادا لمعطيات التحولات الجارية في صلب المجتمع والنظام الدوليين.

إن هذه الدعوة تستدعي أولا تحديد عدد من المؤشرات التي تشير إلى التحولات العميقة في باطن المجتمع الدولي بخاصة توزيع القوة فيه، ولا ريب أن إغفال هذه التحولات يعني مفارقة إستراتيجية لكل مقتضيات التغير والذي يتسارع بكيفية لم تعهدها النظم الدولية سابقا، بخاصة بفعل التكنولوجيا والعولمة والضغوط على الدولة القومية من أعلاها وأسفلها. لكني قبل الدخول في هذه المؤشرات أود التوقف عند الأردن قليلا:

أولا: من الضروري تحديد أبرز المشكلات الأردنية منذ 1921، بخاصة التي رافقت تطور الدولة الأردنية، وتتمثل هذه المشكلات في:

أ‌- الموضوع الفلسطيني منذ وعد بلفور إلى النكبة الأولى إلى اقتطاع إقليم كامل من الكيان الأردني وهو الضفة الغربية وكل ما ترتب على ذلك من ملابسات سياسية واقتصادية وعسكرية واجتماعية، وكان السند والسبب الرئيسي في كل ذلك هو بريطانيا والولايات المتحدة، وهما حتى هذه اللحظة الأكثر مساندة للسبب الرئيسي في هذه المشكلة بل أنهما الأكثر عونا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا لهذا الكيان، وكان الوعد والوعيد الأمريكي والبريطاني للأردن بضرورة إحلال السلام مع هذا الكيان، ولكني أتحدى أن يدلني أي باحث موضوعي على فائدة واحدة  جناها الأردن من هذا السلام، فلماذا إذن التشبث بعلاقة لم تتمكن الدبلوماسية الأردنية من توظيفها لجني مكسب سياسي واحدة في اتجاه هذه القضية، بل إن الإنفاق العسكري يضعنا ضمن المجموعة الأولى عالميا في نسبة الإنفاق الدفاعي إلى إجمالي الناتج المحلي وبخاصة بعد عقد السلام مع الكيان الصهيوني.فلماذا نصر على أن نحلب الثور؟ ومع أن الولايات المتحدة هي الأكثر عالميا استخداما للفيتو فيما يتعلق بالحقوق العربية وبخاصة الموضوع الفلسطيني فان الصين وروسيا هما الأقل إلى حد الانعدام في هذا المجال تحديدا،وها نحن نرى ردود الفعل الأمريكية اللفظية والواهية على خرائط إسرائيل الكبرى التي شملت الأردن وعلى العمل التدريجي لإلغاء الوصاية الهاشمية بينما تقول القوى الآسيوية بضرورة عدم التغيير للوضع التاريخي للقدس الذي نقلت واشنطن سفارتها لها.

ب‌- الموضوع الاقتصادي:

لن اغرق القارئ في تفاصيل تاريخية، ولكني أود أن أشير إلى السياسة الأمريكية مع ثلاث دول عربية كمثال للتوضيح، الدولة الأولى هي العراق، التي كانت تعطي الأردن نفطا بأسعار تفضيلية إلى جانب منحة نفطية بقيمة حوالي 300 مليون دولار، وأصبح ميناء العقبة معبرا لتجارتها، وتقاربت العلاقات بين الدولتين بشكل واضح، فجاء العدوان الأمريكي الذي سانده البريطانيون في مجلس الأمن الدولي، فكانت كل أوزار داعش وتدفق مئات الآلاف من العراقيين على الأردن المثقل بهمومه، واضطر الأردن إلى مواجهة تداعيات عدم الاستقرار في العراق على أمنه، والدولة الثانية هي سوريا، ولست بحاجة لسرد الدور الأمريكي في الأزمة السورية من البداية حتى يومنا الراهن، وفي السنة الأولى من الأزمة انخفض معدل التبادل التجاري بين الأردن وسوريا بنسبة 50%، علما انه بعد اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين عام 2005 تزايد التبادل التجاري بين البلدين خلال العقد الأول من القرن الحالي إلى حوالي 6 مليار دولار، ولكن الأزمة السورية التي يدرك الجميع الدور الأمريكي فيها أدت إلى تراجع قيمة التبادل التجاري بين البلدين من 615 مليون دولار عام 2010 إلى 67 مليون دولار عام 2020، وكل ذلك بسبب اضطراب ساهم الأمريكيون والبريطانيون فيه، وحمل معه فوق هذا العبء أكثر من مائة وخمسون ألف لاجئ سوري كانوا مع بداية الأزمة يكلفون الخزينة الأردنية أكثر من 20 مليون دولار، أما ليبيا ففقد حوالي عشرة آلاف أردني وظائفهم بعد معارك الناتو وبقيادة أمريكية ضد ليبيا، ورغم تواضع التبادل التجاري بين البلدين قبل الهجوم الأطلسي (حوالي 28 مليون دولار) إلا أن عودة عشر آلاف أردني اغلبهم من ذوي الكفاءات يزيد العبء على الاقتصاد الأردني من جديد.

ج‌-  الموضوع العسكري والأمني:

ربما تبدو التدريبات المشتركة مثل مناورات الأسد المتأهب عام 2022 اقل دلالة على العبء للعلاقة مع أمريكيا، ولكن هل الوجود الأمريكي في الأردن هو «لحماية الأردن» أم قواعد ارتكاز للسياسة الأمريكية في المنطقة وإسنادا لوجودها في دول أخرى اغلبها عربية أو إسلامية؟

وهنا يصبح التساؤل هو:

هل يؤسس الوجود الأمريكي بهذه الكيفية لعلاقات ايجابية بين الأردن وجوارها العربي والإسلامي؟ فهل جاءت أمريكا  «تطلب نارا أم تشعل البيت نارا»؟

إن التغيرات التي تصيب علاقات المنطقة مع القوى الدولية تستحق التأمل، ومنذ أن غاب ماوتسي تونغ عن القيادة الصينية نشرت كتابا وأكثر من 7 بحوث عن مستقبل الصين وعلاقاتها العربية، ودعوت منذ أكثر من ربع قرن إلى ضرورة الاستعداد العربي للعلاقة مع هذه القوة الصاعدة  التي أصبحت هي القوى الدولية الأولى في حجم تجارتها الدولية و مع العالم العربي وبفارق كبير عن حجم التجارة العربية الأمريكية، فمنذ عام 2010 تفوقت الصين في حجم تجارتها مع العالم العربي على الولايات المتحدة، ووصلت حاليا إلى أكثر من 330 مليار دولار (مقابل 124 للولايات المتحدة)، ناهيك عن مجموع استثمارات خلال الخمسة عشر سنة الماضية تزيد عن 215 مليار دولار، أما مبررات الدعوة للتحول هي:

أ‌- أن أي مقارنة بين صورة آسيا بشكل عام ومركزها الصين وروسيا والهند وبين صورة الغرب بخاصة أمريكا وبريطانيا في الذهن العربي هو لصالح علاقة أكثر ايجابية مع هذه القوة الصاعدة من العلاقة مع أمريكا، فالصين وروسيا والهند واليابان لم يحتلوا شبرا عربيا، وحضورهم كان غالبا بطلب من الحكومات العربية.

ب‌- أن الشروط الآسيوية لتنمية العلاقة لا تنطوي على الشروط الخطرة (استراتيجيا) والشروط التي يتم فرضها من الغربي على أي علاقة بربطها بموضوعات لا علاقة لها ببعضها، فالصيني لا يربط ديونه أو تجارته مع أي دولة عربية بفتح قواعد أو التطبيع مع إسرائيل أو مساندة المعارضات العربية ذات الميول المعينة، ولا توجه إعلامها لبث الفرقة والضغائن بين مكونات المجتمع الواحد، ويكفي مراقبة المساندة الأمريكية للأقليات في بعض الدول العربية وبالتنسيق مع إسرائيل لتحسس الفرق.

ج‌- أن الدول الآسيوية لا تربط بين قرارات حصارها لدول معينة (قوانين قيصر وغيرها)  وبين علاقات أي دولة عربية مع غيرها(مع أن موضوع تايوان فيه هذا التداخل).

د‌- أن السياسة الصينية لا تتدخل في المناهج ولا التعليم ولا القوانين الخاصة بالحياة اليومية للمجتمعات العربية،بينما تدس الدبلوماسية الأمريكية نفسها بين «الإنسان وثوب النوم وزوجته» على رأي مظفر النواب.

هـ- لا يتورع الدبلوماسي  أو الرئيس الأمريكي عن توجيه الإهانات لغيره من القيادات العربية، ولعل ترامب كان النموذج الصارخ على ذلك،ونفس الشيء لاحظنا ذلك مع بوش الأب والابن، بينما تخلو البيانات الرئاسية الصينية من أي تطاول، وهو ما يعكس الاستهانة والصورة السلبية لصانع القرار العربي في العقل الباطن الأمريكي.

و‌- من جانب آخر، أؤكد أن النسبة العظمى من النخبة الفكرية الأمريكية مقتنعة تماما بان الولايات المتحدة في طريق التراجع عن مكانتها، بسبب أعباء توسعها، وأوضاعها الاقتصادية (رغم قوتها حاليا) والمزاحمة الكبيرة لمكانة الدولار(تراجع نصيب الدولار في الاحتياطيات النقدية للبنوك المركزية من 71%  عام 1999 إلى 59% عام 2022، كما انه يواجه مزاحمة من العملات المحلية بخاصة بعد سلسلة القرارات الصينية والروسية  والهندية والبرازيلية والأرجنتينية والجنوب افريقية والإيرانية باعتماد عملات محلية أو بديلة، ناهيك عن التلميحات التي أطلقها وزير المالية السعودي بخصوص تسعير النفط بغير الدولار في حدود معينة الى جانب المزاحمة التي ستزداد ضراوة من العملات الرقمية، ويضاف لذلك حجم العجز التجاري الكبير، وهي مؤشرات عانتها بريطانيا في بدايات تراجعها وها هي تنتظر المزيد من التفسخ في بنيتها، فبعد أن كانت مع الحرب العالمية الأولى تسيطر على 22% من مساحة العالم باتت بريطانيا الآن بالكاد نصف مساحة العراق، فمكر التاريخ هو آفة الحضارات كلها.

إن المشروع الصيني الذي تتبعته بالدراسة والتحقيق منذ بداياته كفكرة عام 2013 إلى افقه المستقبلي عام 2049 والذي سيضم حوالي 75% من سكان العالم ويقوم على اقتصاديات تصل إلى نصف الإنتاج المحلي العالمي، يستحق الاستعداد للتكيف معه وتوظيف نتائجه عربيا وأردنيا.

ومن الضروري أن يكون التحول مستندا إلى مبادئ عدة:

أ‌- الروية والدراسة الدقيقة للتحول التدريجي

ب‌- تنسيق الدول العربية فيما بينها والتفاوض مع الصين بشكل جماعي لا فردي

ج- عدم الانغماس في احتمالات الاحتكاك العسكري المباشر أو غير المباشر بين الصين وأمريكا في المنطقة العربية.

أن الخطوات التمهيدية لدول الخليج في اتجاه التحول ليست مطمئنة حتى الآن أكثر من 35%، وهو أمر منطقي، لكن تراكمه سيحرر القرار العربي من الغطرسة الأمريكية إذا كان هذا النهج التحولي تعبيرا عن تخطيط استراتيجي مدروس.

 فهل يحررني القادة العرب من شكوكي الدائمة في خلفية قراراتهم؟ أتمنى ذلك.

من د. وليد عبد الحي

أستاذ علوم سياسية، الأردن