د. فتحي أبو الورد

الإفساد باسم الاجتهاد.. لكل علم رجاله، ولكل فن أهله، كما أن لكل فن أدواته، ونحن في عصر يحترم التخصص،

وإذا تحدث واحد من الناس في غير تخصصه وضعت أمامه الإشارة الحمراء،

في لفتة إلى أنه تجاوز حدوده.

أما إذا تعلق الأمر بالشريعة فكل الناس فيها من أهل التخصص،

وكل الناس فيها من أهل الإفتاء، وكل الناس فيها شركاء كما هم شركاء في الماء والنار والكلأ.

 

وإزاء هذه الحالة تسمع الغرائب، وترى العجائب، من بعض منتسبى الدراسات الشرعية الزائغين عن الحق، أو من بعض المتطاولين على الشريعة بغير علم .

 

ترك الزوجة للمغتصب!

 

أفتى بعضهم بجواز ترك الزوج زوجته للمغتصب إذا كان المغتصب سيقتله،

وهو نفسه الذي أفتى بتحريم مشاهدة مباريات كأس العالم لكرة القدم، لما تتضمنه من كشف العورة.

 

وأفتى البعض الآخر بأن مشاهد الرقص والعري والإغراء في السينما المصرية،

مشاهد طبيعية يقبل تواجدها خصوصًا إذا كانت الحبكة الدرامية تستوجب ذلك.

 

وتقول إحداهن : الحجاب ليس فرضا على المرأة، وتزعم أن هذه حالة اجتهاد،

وتردد ذلك بكل ثقة واطمئنان، تماما كما لو كانت تتحدث عن حالة ولادة في مستشفى للنساء والتوليد.

 

ويدعو البعض لخلع الحجاب، ويتزيا حديثه بأن ذلك ثورة جديدة للمرأة على التخلف والرجعية،

وثورة ثقافية لمواجهة الفكر الرجعي، وكأن الفضيلة رجعية، والاحتشام تخلف،

ومن قبل قال سلفهم : {أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} النمل 56.

زواج المتعة

وبعضهم يبيح زواج المتعة، بعدما حرمته السنة، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر،

وأكد على النهى في حجة الوداع كما روى الإمام أحمد في مسنده، ويزعم أن هذا اجتهاد، ويجارى في ذلك مذهب الشيعة.

 

ويتطاول البعض فيقول:

إن العلاقة المعلنة بين الرجل والمرأة خارج إطار الزواج ليست زنى، طالما أنها في العلن وليست في السر،

لأن الأصل في الزواج هو الإشهار والإعلان، وهذا تجديد للدين في عصر الفوضى والتسيب واللامحاسبة،

وإن كان من قال بهذا: لا يعرف سنن الوضوء، أو موجبات الغسل، وهو بحق تجديد، بيد أنه تجديد على طريقة إبليس.

 

وحين يتقول أفاك على كلام الله ليسترضى عببدا فى سخط الله، يتملكك العجب،

ففي قوله تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} المائدة 82.

 

يعتبر هذا الأفاك: أن هذا الكلام تحريض على الطائفية، ويهدد السلم الاجتماعي، فهذا كلام مجتهد ومجدد،

وكأن كلام رب الكون الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مثل كلام غيره من البشر،

يجوز لهذا الدجال أن يعترض عليه، أو يزعم أنه كلام عنصري، لا يناسب العصر الذي نعيشه.

ثورة على النصوص

فهذه ثورة على النصوص، وتجديد في الإسلام، وأنا أقول: صحيح أن هذه ثورة على النصوص،

ولكنها ثورة على طريقة عبد الله بن أبى بن سلول.

 

وحين يطالب بعض من يتحدثون باسم الدين بإصدار قانون لمنع ارتداء النقاب في الأماكن العامة فى بلد عربى مسلم،

بزعم أن النقاب حرام شرعا، رغم أنه لم يقل بهذا القول أحد ممن يعتد به من العلماء في القديم أو الحديث،

فهذا يسوق للبسطاء على أنه اجتهاد، وهو بالطبع اجتهاد، ولكنه اجتهاد شيطاني.

 

بعضهم أنكر عذاب القبر وقال: إنه ليس من الثوابت في الدين، ويرى أن هذه نظرات تجديدية في الدين، وأنه وإن كان الأخير زمانه، فإنه قد أتى بما لم تأت به الأوائل.

 

حين يصبح الطعن في الدين اجتهادا

 

حين يصبح الطعن في الدين اجتهادا، وتحريف نصوصه تجديدا،

وحين يراد تقويض أركان الإسلام، ونقض عراه، وهدم ثوابته، والتشكيك في قطعياته، على طريقة مسجد الضرار،

وحين يصبح تحريف الكلم عن مواضعه حقا مكفولا لكل ضال ومضل، فهنا يجب رفع الإشارة الحمراء، ودق ناقوس الخطر،

لكي تتبرأ المؤسسات الشرعية والجامعات من انتساب أمثال هؤلاء إليها،

وترفع الدعاوى القضائية ضدهم لمنعهم من الإفتاء دفعا للضرر، وحفاظا على دين الناس،

لأن الشرائع السماوية اتفقت على الحفاظ على ما يسمى بالكليات الخمس وفى مقدمتها الدين ثم النفس، والنسل والعقل والمال،

كما ينبغي أن تلاحق أيضا الدعوات القضائية من يتكلم في الفتيا وليس من أهلها،

وتمنعهم السلطات التنفيذية بالدولة من اعتلاء المنابر، أو الظهور في الإعلام، أو الحديث إلى الجمهور.

ما أفتى به أبو حنيفة

وهذا ما أفتى به أبو حنيفة من قديم كما أورد الإمام السرخسى في كتابه «المبسوط» أن أبا حنيفة كان يقول:

لا يجوز الحجر إلا على ثلاثة:

على المفتي الماجن، وعلى الطبيب الجاهل، وعلى المكاري المفلس؛ لما فيه من الضرر الفاحش إذا لم يحجر عليهم.

 

وأوضح الكاسانى أن أبا حنيفة أراد بالحجر المنع الحسي أي: يمنع هؤلاء الثلاثة عن عملهم حسا؛

لأن المنع عن ذلك من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لأن المفتي الماجن يفسد دين المسلمين ،

والطبيب الجاهل يفسد أبدان المسلمين، والمكاري المفلس يفسد أموال الناس.

 

والمكاري المفلس: هو الذي يكاري الدابة ويأخذ الكراء -الأجرة-، فإذا جاء أوان السفر ظهر أنه لا دابة له كما قال الجرجانى فى التعريفات.

اشترط الأصوليون

وقد اشترط الأصوليون فى المجتهد صحة النية وسلامة الاعتقاد، لأن صحة القصد تقهر الهوى،

فتجرد المجتهد لطلب الحقيقة، وسلامة الاعتقاد تأبى على صاحبها أن يرضى الخلق في سخط الخالق،

أو يبيع دينه بدنياه، أو بدنيا غيره، أو يؤثر الفانية على الباقية،

وكما قال الشيخ محمد أبو زهرة: «الشريعة نور لا يدركه إلا من أشرق قلبه بالإخلاص».

 

وقرر الشاطبي -بحق- أن «غير العدل لا يوثق به، وإن كانت فتواه جارية على مقتضى الأدلة في نفس الأمر».

 

واشترط الغزالي في المجتهد «أن يكون عدلا مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة».

 

ومع افتراض صحة اجتهاد غير العدل؛ فإن فتواه غير مقبولة لأن العدالة شرط لقبولها.