عمر بن محمود
عمر بن محمود أبو عمر
عمر بن محمود أبو عمر

بين مفهومين حول الجماعة والأمة.. هذا باب عظيم لما يترتب عليه كبير أمر تتعلق بالطاعات الفردية التي يمارسها العبد بينه وبين ربه والطاعات التي يمارسها ضمن جماعة المسلمين، ولا يمكن تطبيقها لتحقق مقاصدها إلا بهذا.

 

وهذه المصطلحات كتب فيها كثيراً، قديماً وحديثاً، وليس هناك من شيء جديد، لكن يجب تنبيه الشباب وتذكيرهم دوما بالمفهوم الصحيح لهذه المعاني التي يكثر استخدامها في الخطاب الشرعي.

 

هناك خطابان للعلماء حول هذين المصطلحين وما هو على شاكلتهما: الجماعة والأمة، وهذان الخطابان ضرورة مهمة تتعلق بتحقيق صلاح العبد من جهة وصلاح المجتمع ، وكذلك أداء العبد لطاعته لربه منفرداً ساعياً للفلاح، وأدائه ضمن جماعة ليحقق مقاصد الأمة بمجموعها، وليس هناك من تعارض بينهما، ولكن يمكن أن تضيق بعض النفوس عن هذا التلاؤم المرضي والضروري لحياة الإسلام في الوجود.

 

من المهم أنه يعتني المرء بتوازنه في الحياة، وصناعة مزاجه على وجه الحق والعدل، وهذه مهمة شاقة، وكلما اقترب المرء من دقة الأحكام في المختلفات والمتشابهات كلما دل هذا على نور رباني في قلبه، وهذا حكم العقلاء قديما على الرجال، فقد قيل قديما: لا يجتمع حب علي وعثمان إلا في قلوب فحول الرجال، وهذا في وقت يتنازع الناس تقييم هذين الصحابيين على وجه الحدة والميل، حتى ليبدو لبداهة النظر أن الفرقة هي الحاكمة، والحق أن الجمع هو الحق.

 

عند بعضهم يبدو افتراق الأحكام وتضادها عند توزيع الأحكام بحسب أمرين، كالحكم عليها بحسب زمانها والحكم عليها بقيم الحق مطلقاً، فمثلاً لو حاكمنا خليفة بحسب زمانه ومهماته من جهة الأمة لرضيناه ومدحناه، ولو حاكمناه بالمطلقات فلربما سميناه قاتلاً ظالماً في حكم سيفه ضد خصومه، ومثال ذلك السلطان بيبرس، فالعلماء لا يرضون فعله بقتل سيده قطز، ولكن لما يأتون لمهاماته في قيامه بحق الأمة يمدحونه.

 

يمكن قول هذه الكلمة السائرة منهجاً لأهل السنة، وأنهم أهل العدل في أحكامهم، واعتقادهم بإمكانية الجمع بين السيئة والحسنة في الرجل الواحد، وهذا شيء مشهور، لكن ما نحن فيه يتعلق بالتعامل مع المصطلح على جهتين، هي أشبه بالدوائر، حيث تحوي الدائرة الكبيرة الصغيرة.

عندما يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الجماعة التزام الحق وإن كنت وحدك، فهو يعبر عن مفهوم خاص لمعنى الجماعة، هذا المفهوم يضيق عن قوله: الخلاف شر، وهو يتابع عثمان رضي الله عنه في إتمام الصلاة في منى في الحج، إذ يخالفه في العلم ويتابعه في الفعل.

 

عندما تخوض علمياً في تقرير الحق فأنت تتعامل مع مطلقات، وعندما تخوض عملياً في الحياة وما فيها فأنت تخوض في الممكنات، ولكل حساباته وضرورته وتقريراته، وحمل كل ضرورة على كل حال هكذا بلا اعتبارات لأصول العلم والعمل مفسد وفساد.

 

علماؤنا عظماء، فقد كانوا على وعي بقوانين العلم، وعلى وعي يوازيه بقوانين العمل، وكذلك كانوا يفرقون بين مهماتهم في العلم ومهماتهم في المجتمع، وقد يبدو هذا لبعضهم تعارضاً، ولكنه في الحقيقة يعبر عن قضيتين مهمتين، أولاهما: الحفاظ على معيارية الحق، وأن هذا المعيار ثابت لا يتغير بتغير الزمان والمكان، ويجمعه قوله صلى الله عليه وسلم: ما أنا عليه وأصحابي، أو قوله: كتاب الله وسنتي، وثانيهما الحفاظ على مفهوم الأمة الجامع واقعياً وضرورة.

 

كنت أعجب كثيراً من هروب الصالحين والعلماء من مجالسة الخلفاء والسلاطين، ليس لهذا الهروب المجرد، ولكن لما يصاحب هذا الهروب من دعائهم لهؤلاء السلاطين، والدفاع عنهم ما لو فكر أحد بالخروج عليهم، لكن بالتفكر تعلم كيف يمارس هؤلاء العلماء هذا التوازن بين بقائهم خارج المؤسسة والنظام للحفاظ على نظافة معياريتهم، والحفاظ كذلك على النفس، وبالدفاع عن النظام يحافظون على وجود الأمة الجامع لذلك.

 

في خضم معركة الحق التي يخوضها العالم ضد خطأ المؤسسة (الخلافة، أو السلطنة) لا ينسى مهمة الحفاظ عليها كذلك ،فلا ينساق مع غضبه ليدمر كل شيء لهذا الخطأ، ذلك لوعي علمائنا أن هذا النوع من الغضب هو غضب للنفس كما عبر عن هذا أحمد بن حنبل، وشرحه على وجه العظة الشيخ المعلمي، فإن الرجل إذا نصح فلم يقبل منه النصيحة، قد يشتد ثانية لا نصرة للدين، ولكن غضباً لنفسه أنه لم يطع بسلوك درب أوامره.

 

التوازن بين مفهوم الأمة باعتبار المجتمع الإسلامي شيء، ومفهومها باعتبار الحق المطلق شيء آخر، وعلى ضوء هذا تمتد ممارسات وفقه وطريقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقضايا كثيرة جداً.

من عمر بن محمود

من علماء فلسطين