أحمد الشريف

 

لا يعدم المجادلون من أهل الأهواء والنيات الخبيثة حجج الاستدلال بالوقائع التاريخية، واستخدامها في قلب الحقائق لتحسين القبيح وتقبيح الحسن بأسلوب رشيق ذكي ينطلي على العامة.

ويلبس صاحبه ثوب المفكر المستنير، وهو الذي لا يخجل من إثبات هذا «التنوير» بكل وسائل التزوير!.

ومن ذلك الاستدلال العجيب ما لجأ إليه البعض في إثبات ملائكية الرئيس المخلوع حسني مبارك وتقديره للعلم والعلماء وسعة صدره التي جعلته يقف ساكنًا أمام غضبة وهجوم الشيخ محمد الغزالي عليه عندما طالبه الرئيس بالدعاء له في الواقعة المتداولة هذه الأيام، بمناسبة مرور ربع قرن على وفاة الشيخ الجليل رحمه الله!..

وهى الواقعة التي أثارت جدلا واسعا، ورويت بأكثر من طريقة، زاد فيها البعض وبالغوا، وأنكرها آخرون لعدم معقوليتها وتوافقها مما تواتر عن طغيان مبارك الذي أمر في مارس ١٩٩٣م، باعتقال رجل بَرِيء وزجّه في السجن مدة ١٥ عاما لمجرد أنه قابله مصادفة في صلاة الفجر بالمسجد النبوي وقال له: «يا ريس اتق الله، واحكم بما أنزل الله»!. [١]..

وما لا يعلمه الكثيرون أن واقعة الشيخ الغزالي مع مبارك نشرت للمرة الأولى في العام ٢٠٠٦م، في مقال كتبه د. محمد سليم العوّا ونشرته جريدة الأسبوع تحت عنوان «الرجل.. ورجلان آخران».[٢].

وكان مقالا طويلا معنيّا في الأساس بالحديث عن (الرجل) حسن نصر الله زعيم حزب الله وتصديه للعدوان الإسرائيلي على لبنان في حرب تموز ٢٠٠٦م، وأما (الرجلان) فهما رئيس الوزراء المصري أحمد نظيف وشيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي، وعندما تحدث عن الأخير قال: «لم يؤسفني من كلام فضيلة سيدي الإمام الأكبر شيء بقدر ما أسفت لقوله: إن الأزهر، المؤسسة الدينية الأكبر والأقدم في العالم السني، يستمد مواقفه من رئيس الدولة»!.

وأضاف العوّا: «لا أحب أن أعود بسيدي الإمام الأكبر إلي الأئمة الأربعة، ولا إلى التابعين وتابعيهم الذين قال الخليفة أبو جعفر المنصور في أحدهم: «ألقينا الحَبّ إلى العلماء فالتقطوا إلا سُفيان فإنه أعيانا فرارا»، ولا إلى ذلك الذي رد رقعة دعوة وصلته من الخليفة بعد أن كتب علي ظهرها: «صاحب الدنيا لا ينصحك، وصاحب الآخرة لا يصحبك»!.

لا أستعيد ذاكرة سيّدي الإمام الأكبر إلي هؤلاء وأضرابهم، وهم لا يحصون عددا، في تاريخنا الصحيح الثابت. لكنني أعود به وأرجو أن يقبل العودة معي إلي تذكر من عاصرهم، وعمل معهم واتصل بهم، ومنهم سلفه المباشر، القاضي العالم الرباني، الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، الذي كان يقول لمندوب الرئيس، وأنا أنقل عنه، أي عن ذلك المندوب، نقلا مباشرًا: «أبلغ سيادة الرئيس أن الذي كتبته هو رأي الأزهر، وللرئيس أن يختار ما يفعله».

ثم كتب العوا في ختام مقاله الطويل: «أعود بذاكرة سيدي الإمام الأكبر وأرجو أن يقبل العودة معي إلي ذلك الشيخ الجليل الصادق البكّاء: شيخنا العلامة محمد الغزالي، رحمه الله، الذي قال لمن اشتكي له ثقل الحمل الذي يجعله مسئولا عن إطعام شعبه، وهو عشرات الملايين، قال له الشيخ الغزالي بمحضر عالمين جليلين يجتمعان الآن معه بإذن الله في الجنة: من تظن نفسك حتى ترى أنك تطعم شعبك؟ وهل تملك أنت أن تمنع طعامك من ذبابة تقف عليه؟ وهل تملك عمرك حتى تظن أن بيدك مقاليد أرزاق غيرك؟!

ولم يُصب الشيخ الجليل من ذلك إلا مزيد احترام ذلك الرجل الذي كان يحدثه»!.

وهذا الختام هو الخاص بالواقعة من شهادة الدكتور العوا للرواية التي استأمنه عليها الشيخ محمد الغزالي، والتي كانت في يوليو ١٩٩٥م بمحضر الشيخين جاد الحق والشعراوي..

والقصة ليست بمستغربة لمن يعرف الشيخ محمد الغزالي رضي الله عنه، الذي كان سريع الغضب سريع الفيء، قويا في مجابهة الباطل وقول الحق، مع اعتداد شديد بالنفس نابعا من عزة الإسلام ممزوجا بتواضع العلماء وحسن خلقهم.

وهى أيضا ما لا يمكن إسقاطها على شخصية مبارك واعتبارها من ديدنه وعاداته في التعامل مع محكوميه!.

ولقد كان لها سوابق عديدة عبر التاريخ لمن هم أكثر خبثا وطغيانا من مبارك..

ومثال ذلك ما دار بين الطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي، والإمام الحسن البصري رضي الله عنه، عندما رأى اجتماع الناس منبهرين بعظم قصر “الحَجّاج” في مدينة “واسط العراقية” فلم يشأ الحَسَن أن يفوِّت على نفسه فرصة اجتماع الناس هذه، في وعظهم وتذكيرهم بما عند الله عزَّ وجل، فكان مما قاله: «لقد نظرنا فيما ابتنى أخبث الأخبثين؛ فوجدنا أنَّ (فرعون) شيَّد أعظم مما شيَّد، وبنى أعلى مما بنى، ثم أهلك الله (فرعون)، وأتى على ما بنى وشيَّد..

لَيْت الحجّاج يعلم أن أهل السماء قد مقتوه، وأن أهل الأرض قد غرُّوه.. ومضى يتدفق على هذا المنوال حتى أشفق عليه أحد السَّامعين من نِقمَةِ الحجاج، فقال له: حسبك يا أبا سعيد.. حسبك، فقال له الحَسَن: لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم لَيُبَيِّنُنَّهُ للناس ولا يَكتمونَهُ»..

فلما بلغ الحجاج ذلك استشاط غضبا وتوعد الحسن البصري بالقتل، قائلًا لجلاسه: «تبًّا لكم وسحقًا، يقوم عبد من عبيد أهل البصرة ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يرده أو ينكر عليه!.

ودعا بالجلاد؛ فمثل واقفًا بين يديه، ثم وجه إلى الحَسَن بعض شرطه وأمرهم أن يأتوه به، وما هو إلا قليل حتى جاء الحَسَن، فشخصت نحوه الأبصار ووجفت عليه القلوب.

فلما رأى الحَسَن السيف والجلاد، حرَّك شفتيه، ثم أقبل على الحجاج وعليه جلال المؤمن وعزة المسلم ووقار الداعية إلى الله.

فلما رآه الحجاج على حاله هذه هابه أشد هيبة وقال له: ها هنا يا أبا سعيد.. ها هنا.. ثم ما زال يوسع له ويقول ها هنا.. والناس ينظرون إليه في دهشة واستغراب حتى أجلسه على فراشه.

وأمر بالطعام وأجود العطور للحسن ثم صرفه مكرما!.

فلما خرج الحَسَن من عنده، تبعه حاجب الحجاج وقال له: يا أبا سعيد، لقد دعاك الحجاج لغير ما فعل بك، وإني رأيتك عندما أقبلت ورأيت السيف، قد حركت شفتيك، فماذا قلت؟ فقال الحَسَن: لقد قلت: يا وليَّ نعمتي وملاذي عند كربتي؛ اجعل نقمته بردًا وسلامًا عليَّ كما جعلت النار بردًا وسلامًا على إبراهيم»!.[٣].

وما فعله الحجاج هنا هو الاستثناء الذي لا يمكن القياس عليه من سيرة الرجل الذي اشتهر بالظلم والتجبر في الأرض، حتى قال عنه الخليفة الأموي الراشد عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه: لعن الله الحجاج، فإنه ما كان يصلح للدنيا ولا للآخرة!.[٤]..

وقد خرج عليه أكثر علماء عصره فيما عرف بثورة القراء والفقهاء، فتتبعهم الحجاج، ومن ظفر به عرضه على السيف فمن أقر له بكفره عند خروجه على ولي الأمر تركه!.،  ومن امتنع قتله حتي بلغ من قتلهم صبرا (أي بدون قتال) مائة وعشرون ألفا كما أخرج الإمام الترمذي!.. وقال عنه الإمام طاووس بن كيسان أحد سادات التابعين، عجبت لمن يسمي الحجاج مؤمنا، حيث كفره جماعة من كبار علماء عصره منهم مجاهد والشعبي والنخعي وابن أبي النجود وسعيد بن جبير وغيرهم!.[٥].

وللأسف حاول بعض فقهاء السلطان في عصرنا هذا تجميل صورة الحجاج لتحسين صورة الحكم الأموي العضوض الجبري كواحدة من صور الحكم الإسلامي وأيضا في معرض الرد على الفرق الشيعية وغيرها، وساقوا الحجج بقوة الدولة وفتوحاتها العظيمة، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث فاتحا جابيًا ولم يبعث رحمة وهاديًا!.

وقد كان من قدر الحجاج أن يأتي في إقبال دولة الإسلام وقوتها التي صنعها العهد الراشد وخاصة ما تم من انتصارات على الفرس والروم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه..

ولو كان الأمر بالفتح والقوة فقط لكان السفاح تيمور لنك أعظم ملوك الإسلام قاطبة!.

ولكن الإسلام برئ من كل ظالم طاغية ومن أسرف في القتل باسم الله ووجد من يزين له عمله من أصحاب الهواء والنفوس الخانعة!.

وهو ما أكده المؤرخ الإسلامي الدكتور محمد على الصلابي –أحد المنافحين بقوة عن الدولة الأموية– حين قال:

«أسهم ظُلم الحجاج في تشويه صورة الحكم الأموي والدولة الإسلامية العظيمة، وقدحرص المولعين بشخصية الحجاج إخفاء هذا الجانب المشوه من حياته، ولكن الدراسة الواعية المنصفة تأبى هذا المنهج»!.[٦]..

وقد استبعد “الصلابي” الروايات الواهية والمبالغات التي تدين الحجاج، ومع ذلك لم يستطع رد أفعال الحجاج المنكرة في التنكيل بالصحابة الكرام والتي أورد منها في كتابه: «خطب الحجاج في الناس ينهاهم عن اتباع الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، في قراءة القرآن، قائلا: والله لو أدركت ابن مسعود رأس المنافقين، لضربت عنقه وأسقيت الأرض من دمه»!.

ومن سوء أدبه وتطاوله على صحابة رسول الله، أن ختم على بعضهم بختمه “عتيق الحجاج” للمهانة والإذلال، مثل أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهم أجمعين!.[٧]..

وفي النهاية يجب أن يتم وضع الأمور في سياقها والحكم على المجمل وليس بإبداء واقعة وتحميلها ما لا تحتمل، أوإخفاء أخرى لستر العورة وتزيين الصورة كما فعل اليـهود من بني إسرائيل ﴿قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾..[الأنعام الآية ٩١]..

هوامش المقال:

[١] مقال: القطان..الرجل الذى قال لمبارك “اتق الله” فسجنه ١٥ عامًا، بوابة الأهرام بتاريخ ٢٣ مارس ٢٠١١م..

[٢] مقال: “الرجل.. ورجلان آخران”، العوّا، جريدة الأسبوع، العدد ٤٨٨، بتاريخ ٣١ يوليو ٢٠٠٦م..

[٣] كتاب “صور من حياة التابعين”، د/ عبد الرحمن رأفت باشا، ص١٠٤، طبعة دار الأدب الإسلامي ١٩٩٧م..

وأيضا كتاب “الفرج بعد الشدة” للقاضي التنوخي، ج١ ص١٩٠، طبعة دار صادر بيروت، تحقيق عبود الشالجي..

[٤]المصدر السابق (الفرج بعد الشدة)، ص١٩٢ نقلا عن (معجم البلدان ج٣ ص١٧٨)..

[٥] تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، ج٢ ص٢١١، طبعة دار المعارف النظامية بالهند سنة ١٣٢٥هـ.

[٦] الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، د/ علي الصلابي، ج١، ص٦٤٥، دار المعرفة بيروت..

[٧] المصدر السابق، عن تهذيب تاريخ دمشق (ج٤، ص٧٢) ، وتهذيب الكمال (ج١٢، ص١٨٨)، وأثر العلماء في الحياة السياسية ص٥٧٥..