أحمد الشريف، كاتب وباحث

لا يُعرَف كُنه الأشياء وأصالة معدنها إلا بوضعها تحت الاختبار الذي يكشف زيفها ويحدد مصداقيتها. ومن ذلك ما حدث في سبعينيات القرن الماضي عندما رفعت مصر شعار دولة العلم والإيمان ووصف السادات نفسه بأنه «رئيسٌ مُسلمٌ لدولة مُسلمة»، وهو الشعار الذي تم تنفيذه بصورة كبيرة على أرض الواقع للقضاء على آثار الشيوعية والماركسية الملحدة المتبقية من مخلفات العهد الناصري!.

ولكن أصالة الشعار ومدى جديته اتضحت بوضعه في مفاضلة مع غيره من سياسات النظام الحاكم. فعندما أقدم الشيخ الجليل صلاح أبو إسماعيل على دفع الدولة لإثبات شعارها بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وسن القوانين الموافقة لها، فاستخدم حقه كعضو في البرلمان المصري وتقدم باستجواب في هذا الشأن ضد وزير العدل في مايو ١٩٧٧م. فما كان من الأنبا “شنودة” رأس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إلا أن ذهب إلى رئيس الوزراء «ممدوح سالم» رافضا لتطبيق الشريعة في مصر، ومن ثم قررت الحكومة عزل وزير العدل لإسقاط الاستجواب إرضاءً لقداسة البابا وللسيّد الذي يستقوي به في البيت الأبيض!.[١]..

وهو ما ظهر جليًّا في برقية «شنودة» المنشورة أوائل العام ١٩٧٩م في مجلة المصري التي يصدرها في أمريكا «فؤاد القصاص»، والموجَّهة إلى مجلس الكنائس العالمي: «أكدت السلطات المصرية أنه لا تغيير في القوانين المعمول بها حاليا في مصر.. اطمئنوا، ليس هناك ما يزعج. بركاتنا تعمكم»!.[٢]..

وحُق للأنبا أن يقول ذلك، فقد أباحت له الدولة لأول مرة أن يُحاضر في مكان عام مثل الجمعية الجغرافية في يونية ١٩٧٩م، وكانت الندوة عن «العدالة الاجتماعية في المفهوم المسيحي» والتي رُوّج لموضوعها بأوسع نطاق. حيث رأس الندوة وزير الأوقاف الأسبق الشيخ «حسن الباقوري«، وتكلم فيها “شنودة” لمدة ثلاث ساعات مس فيها الإسلام بقسوة وإجحاف. ورغم ذلك عقّب «الباقوري» قائلا: «فواللّه لكأني أستمع إلى رجل من رجالات السلف الصالح يتحدث عن العدل في الإسلام»!.

ولكن كان بين الحضور الشيخ الجليل «صلاح أبو إسماعيل» الذي انتفض قائما ليحفظ للإسلام هيبته وطلب الكلمة للرد مخاطبا الأنبا «شنودة»: «يجب أن تحتفظ برأيك في الإسلام في الكنائس بين شعبك وجمهورك، أما أن تخوض في مقدساتنا، فأنت بذلك تضعنا بين مسالمة على حساب الدين أو رد على حساب الوحدة الوطنية..»!.[٣]..

هنا يتساءل البعض إذا كان الأمر على هذا النحو، فكيف قام الرئيس السادات بعزل الأنبا شنودة، محددا إقامته في وادي النطرون؟!.، وهو السؤال الذي يدور حول إجابته جوهر مقالنا اليوم، فنتعرف على بوصلة أنظمة الحكم العربية المضبوطة حسب سلم أولويات النظام في واشنطن، حيث يأتي في أعلى درجاته مصلحة الكيان الصهيوني وأمنه في المنطقة..

فتسهل الإجابة إذا عرفنا أن الحملة الواسعة في سبتمبر ١٩٨١م على كل أطياف المجتمع ورموزه الذين رغم اختلاف مشاربهم وخلفياتهم يجمع بينهم أمر واحد فقط هو رفض الكيان الصهيوني والتطبيع معها، كانت في إطار التماهي مع الرؤية الأمريكية!.[٤].،

وذلك بعد تبني الأنبا شنودة قرار المجمع المقدس في ٢٦ مارس ١٩٨٠م، بحظر سفر الأقباط إلى مدينة القدس تحت مظلة الاحتلال الإسـرائيلي!..

والسبب في ذلك الانحياز التام من قبل أمريكا للدولة العبرية، ليس المزاج العام للشعب هناك ولا قدرنا المحتوم بعلو الكيان الصهيوني، ولكنه همة الصهاينة العالية، وترويجهم لقضيتهم الباطلة ببراعة ودأب. مع زراعة بذور ديانتهم داخل أروقة الكنائس والمحافل الأصولية الأمريكية، حتى ظهر خليط ديني جديد يسمي «الصهيونية المسيحية».

وهو ما عبّر عنه صراحة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر أمام الكنيست الصهيوني سنة ١٩٧٩م بقوله: «إن أمريكا وإسـرائيل تتقاسمان تراث التوراة»!.[٥]..

وربما يرى البعض أن هذه الدعوة الجديدة لن يُكتب لها النجاح، خاصة في مجتمع علماني متحرر مثل المجتمع الأمريكي، وهو رأي له وجاهته دون شك وقد اقتنع به دعاة الصهيونية أنفسهم. ولذلك لم يركنوا إليها فقط، بل عملوا على تكوين «لُوبي» قوي يضغط على الأنظمة الأمريكية المتعاقبة، فضلا عن اختراق صناعة القرار في واشنطن وصبغه بالصهيونية.

والقرائن على ذلك كثيرة جدا وصارخة منها على سبيل المثال؛ الدور الفاعل للحركة في إسقاط «تشارلز بيرسي» رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ عام ١٩٨٤م، ودعم نجاح «بول سيمون» الذي كان يؤيد إسرائيل بشكل مطلق.

بل الأنكى من ذلك هو ما قامت به «لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية» وهى إحدى جماعات الضغط الرسمية لمصلحة إسرائيل داخل الولايات المتحدة، بالتعاون مع جماعة مسيحية صهيونية تسمى أمريكيون لصالح إسرائيل آمنة  (Americans For A Safe Israel)، من أجل تغيير قلوب وعقول أعضاء الكونجرس لمصلحة الكيان الصهيوني.

وقد نجحت في تغيير موقف السيناتور جيسي هيلمز رأسا على عقب. حيث كان هيلمز حتى سنة ١٩٨٥م من أكبر ناقدي موقف أمريكا الداعم للكيان الصهيوني، وعارض المبالغ الضخمة التي يقدمها دافع الضرائب الأمريكي إلى الكيان الصهيوني، كما عارض غزو لبنان في صيف ١٩٨٢م، وطالب بمقاطعة الكيان الصهيوني من أجل ذلك، فاعتبره اليهود أكثر أعضاء المجلس رجعية منذ قيام الدولة العبرية!..

ولكن موقف هيلمز تغيّر تماما وصار من أشد مؤيدي الكيان الصهيوني، بل بعث برسالة إلى الرئيس ريجان تدعو إلى مساعدة الكيان الصهيوني في ضم كل الأراضي العربية المحتلة إليها معتبرا إياها أفضل حليف لأمريكا في الشرق الأوسط!.[٦]..

وتوجت مجهوداتهم بوصول أبناء الحركة الصهيونية نفسها إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة بغض النظر عن دياناتهم الأصلية، فكان منهم الصـهيوني اليـهودي مثل وزير الخارجية ومستشار الرئيس للسياسة الخارجية والأمن القومي الدكتور هنري كيسنجر،

الذي وقف في ربيع ١٩٩٠م -بعد سقوط الاتحاد السوفيتي- يلقى خطابا أمام المؤتمر السنوي لغرفة التجارة الدولية،

يقول فيه: «إن الجبهة الجديدة التي يتحتم على الغرب مواجهتها هي العالم العربي الإسلامي، باعتبار هذا العالم هو العدو الجديد للغرب»!.[٧]..

كما كان منهم الصـهيوني المسـيحي مثل الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي قال في مارس ٢٠١٦م: «والدي قال لي: إنه لا يُشترط أن أكون يهوديًّا لأصبح صهيونيا… فأنا بذلك صـهيونيّ»!..

ولأن تحديد السياسات في غالبية العالم العربي صار مرهونا بالتوجهات الأمريكية، فبالتبعية أصبحت رعاية المصالح الصهيونية من مهمات تلك الأنظمة. وقد فتحت مصر هذا الباب على مصراعيه منذ الاتفاقية المشؤومة مع العدو أواخر حكم السادات وسار خَلَفَه مبارك على نفس الدرب وزاد في رصيد الخزي والعار الذي تكشف بعضه بالوثائق أثناء النظر في قضية تصدير الغاز المصري «مدعوما» إلى دولة الكيان الصهيوني، حين حكمت محكمة القضاء الإداري في ١٨ نوفمبر ٢٠٠٨م، ببطلان التصدير وضرورة إيقافه لضرره بالأمن القومي ومصلحة الوطن، وهو القرار الذي فضح عار نظام مبارك عندما قامت الحكومة بالطعن فيه وأوقفت تنفيذه بحكم قضائي من محكمة الأمور المستعجلة في ٣١ مارس ٢٠٠٩م!.

ثم أخذ الوضع في التدهور حتى وصلنا إلى قائد الانقلاب العسكري الذي وقف يخطب في مقر الأمم المتحدة في ١٩ سبتمبر ٢٠١٧م، مؤكدا على أهمية المفاوضات من أجل ضمان أمن المواطن الصهيوني، فنال تقدير النخبة الصهيونية واعتبره الأكاديمي الصهيوني «إيدي كوهين» في نوفمبر ٢٠١٨م «أكثر صهيونية» من بعض اليهود!..

ولقد رأينا منذ أيام قليلة التحضير لما عرف بناتو الشرق الأوسط والذي يضم الكيان الصهيوني والسعودية ومصر والإمارات والأردن برعاية أمريكية مستهدفا «إيران» العدو المشترك لتلك الأنظمة!..

وهو الهدف الأبرز في رحلة الرئيس الأمريكي بايدن التي شملت  دولتين فقط، الكيان الصهيوني والمملكة العربية السعودية، أكبر أعداء طهران الإقليميين، واللتان تتقاربان من بعضهما البعض أكثر من أي وقت مضى، حيث فتحت السعودية مجالها الجوي أمام شركات الطيران الإسرائيلية لأول مرة وهى خطوة جبارة في مسار التطبيع مع العدو الصهيوني!.[٨]..

الجدير بالذكر في هذا الشأن أن هذه لم تكن أولى خطوات السعودية للتطبيع مع العدو الإسـ.رائيلي، فإن الأذرع الدينية لنظام الحكم هناك كانت تُطبق قاعدة «الولاء والبراء» على المخالفين لها في العقيدة مثل الشيعة والإباضية والصوفية فضلا عن من يجمعهم مذهب أهل السنة والجماعة مثل الأشاعرة وحتى المختلفين سياسيا مثل جماعة الإخوان المسلمين، ولكنها لم تطبقه على الولايات المتحدة الأمريكية وربيبها الكيان الصهيوني لدرجة أن الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي عام المملكة أثار لغطا واسعا بحديث له في مطلع العام ١٩٩٥م، عندما أباح عقد الهدنة والجنوح إلى السلم مع العدو، واستدعاء صلح الحديبية تاريخيا للتدليل على ذلك[٩]،

كما خرق موقف الأمة الرافض لزيارة المسجد الأقصى تحت مظلة الاحتلال الصهيوني، وهى النقاط التي فنّدها باستفاضة واقتدار الأستاذ فهمي هويدي في مقاله مراجعات في الفقه السياسي والذي حظرته الصحف وقتها، فتم نشره ضمن كتابه القيّم «المقالات المحظورة»!.[١٠]..

وعندما رفض جمهور المسلمين تدنيس القوات الأمريكية لجزيرة العرب، قامت هيئة كبار العلماء في السعودية بتأييد نظام المملكة –كعادتها دائما– في اعتقال من «يحرضهم» من الدعاة والمصلحين أمثال سلمان العودة وناصر العمر وسفر الحوالي مع عشرات غيرهم من الأبرياء وتعريضهم لتعذيب بشع في السجون والمعتقلات في سنة ١٩٩٥م، وهو الأمر الذي سبقه تحريض من تلك الهيئة بإيقافهم ومنعهم من ممارسة الدعوة والخطابة والمشاركة في الندوات والمحاضرات حماية للمملكة من شرورهم!.[١١]..

وفي نفس الإطار والتزامن جاءت الفتوى الكارثية للشيخ العُثيمين بتَأْثِيم كل من يقوم بالعمليات الاستشهادية (الانتحارية حسب قول الشيخ) ضد الصهاينة، حيث أفاض في عدم نفعها للمسلمين قبل أن يختم بالنتيجة قائلا: «إن هذا انتحار وصاحبه ليس بشـ.هيد. لكن إذا فعله الإنسان متأولا ظانا بجوازه فإننا نرجو أن يسلم من الإثم، وأما أن تُكتب له الشهادة فلا..»!.[١٢]..

والحمد لله الذي قيّض للأمة من يعي جوهر دينها مثل العلامة الدكتور يوسف القرضاوي الذي أحسن الرد بصورة علمية شرعية وعملية واقعية على هذه الفتوى، وأيده في ذلك جمع كبير من علماء الأمة.[١٣].

وفي الأخير كشفت المملكة عن وجهها القبيح صراحة باختيار الشيخ محمد العيسى عضو هيئة كبار العلماء خطيبا ليوم عرفة أقدس أيام المسلمين، وهو الرجل المُجاهر بالدعوة إلى التطبيع فضلا عن التعاطف مع اليهود وتبني قضاياهم في مناسبات عديدة!.

وإذا كان ٢٦ فبراير ١٩٨٠م، هو اليوم الذي شهدت فيه القاهرة موكب السفير الصهيوني إلياهو بن إليسار متجها لمقابلة الرئيس السادات إيذانًا بتأسيس أول سفارة للصهاينة في الوطن العربي، فلن يكون ٣٠ يونيو ٢٠٢١م الذي افتتح فيه وزير خارجية الكيان الصهيوني يائير لابيد قنصلية بلاده في «دبي» هو الأخير، بل نترك القوس مفتوحا لتاريخ افتتاح الرياض!.

لينجح الصهاينة في فرض السلام بطريقتهم الخاصة وتوقيع العرب على المادة السادسة من معاهدة السلام التي تعهدت فيها مصر بعدم الدخول في أي اِلتزام يتعارض مع تلك المعاهدة. وأنه في حالة وجود تناقض بين الالتزامات بموجب هذه المعاهدة وأي من التزاماتها الأخرى في معاهدات سابقة فإن الالتزامات الناشئة عن هذه المعاهدة تكون ملزمة ونافذة!.[١٤]..

وكما باع الحكام العرب من قبل آية ﴿وأعدوا…﴾، سوف يحذفون من القرآن آية ﴿واعتصموا …﴾… ولكن إلى حينٍ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا بإذن الله..

#معركة_الوعي_أم_المعارك ..

هوامش المقال:

[١] تفاصيل عزل الوزير أحمد سميح، ولقاء الأنبا شنودة مع ممدوح سالم يرجى مراجعة مقال: علماء السلطان وسلاطين العلماء!.

[٢] الشهادة في قضية تنظيم الجهاد، الشيخ صلاح أبو إسماعيل،  صـ٧٩، طبعة دار الاعتصام سنة ١٩٨٤م..

[٣] الشهادة، مصدر سابق، صـ٧٨، وما بعدها..

[٤] مقال ذكريات سياسية سبتمبرية..

[٥] الصـ.هيونية المسيحية، محمد السماك، صـ٣٠، دار النفائس، الطبعة الثانية بيروت سنة ١٩٩٣م.

[٦] البعد الديني في السياسة الأمريكية، د/ يوسف الحسن، صـ١٦٨، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت سنة ١٩٩٠م.

[٧] الصهيونية المسيحية، مصدر سابق، صـ٦، مقدمة الطبعة الثانية

[٨] تقرير إخباري على موقع «CNN بالعربية» تحت عنوان: ناتو شرق أوسطي ، بتاريخ ١٨ يوليو ٢٠٢٢م..

[٩] مقال: صلح الحديبية المفترى عليه،.

[١٠] المقالات المحظورة، فهمي هويدي، صـ١٦٨ وما بعدها، طبعة دار الشروق، سنة ١٤٢٤هـ/٢٠٠٣م.

[١١] صورة خطاب من الشيخ عبد العزيز بن باز إلى الأمير نايف وزير الداخلية بتاريخ ٣ / ٤ / ١٤١٤هـ، في رابع تعليق!.

[١٢] شرح رياض الصالحين، محمد بن صالح العثيمين، جـ١ صـ٢٢٢، مدار الوطن للنشر، الرياض الطبعة الأولى ١٤١٥هـ/ ١٩٩٦م..

[١٣] فقه الجهاد، يوسف القرضاوي، صـ١١٩٢ وما بعدها، مكتبة وهبة سنة ١٤٣٥هـ/ ٢٠١٤م..

[١٤] ملحق معاهدة السلام، في كتاب السادات.. ٣٥ عاما على كامب ديفيد، فاتن عوض، صـ٤٥٨، ط. مؤسسة الطوبجي، سنة ٢٠١٣م.