أحمد الشريف، كاتب وباحث

كنت أشاهد، مساء أمس الخميس، مباراة كرة القدم بين فريقي «اليوفنتوس» الإيطالي و«إشبيلية» الإسباني في الدور قبل النهائي لبطولة الدوري الأوروبي للأندية..

وقد كان النادي الأندلسي «إشبيلية» متقدمًا طوال المباراة بهدف للنجم المغربي «يوسف النصيري» الذي أحرزه في منتصف الشوط الأول من المباراة..

وظل الحال هكذا حتى نهاية الوقت الأصلي للمباراة، ورغم انتهاء الدقيقة السادسة والأخيرة من الوقت الإضافي فإن الحكم لم يطلق صافرته في انتظار نهاية الهجمة للفريق المهزوم والتي أسفرت عن ضربة ركنية أحرز «اليوفي» منها هدف التعادل ومعه صافرة النهاية للمباراة المثيرة!.

وبعيدًا عن المباراة والبطولة لفت نظري الفرحة الرهيبة العارمة لجماهير «اليوفنتوس» بعد المباراة وهى التي كانت تنتظر فوزًا عريضًا لفريقها الذي يلعب على أرضه، ووسط جماهيره مع فريق لا يرقى تاريخيًّا ليكون ندًا «للسيدة العجوز» أعظم الأندية الإيطالية وأكثرها حصادًا للبطولات المحلية والقارية وأحد أبرز معاقل الكرة العالمية على الإطلاق!.

ولكي نفهم كامل الصورة ينبغي معرفة أن جماهير اليوفنتوس أحد أكثر الجماهير تعصبا وعنصرية على مستوى العالم..

ولها سوابق كثيرة في هذا الشأن من أكثرها دلالة تلك المباراة الشهيرة التي خاضها فريقهم ضد نادي «نابولي» القادم من جنوب إيطاليا ليلعب في مدينة «تورينو» الشمالية في ٣ نوفمبر ١٩٨٥م!.

وفيها هتفت جماهير «اليوفنتوس» بجماعية رهيبة وعنصرية بغيضة ضد لاعبي وجماهير نابولي وقبل بدء المباراة، واصفة إياهم بالفلاحين القـذرين الذين يحملون وباء الكـوليرا حتى أن الكلاب تجري بعيدا عندما يأتي «النابوليّون» لأنهم لا يغتسلون بالصابون، فهم عـار إيطاليا!.

لك أن تتخيل هذه النفسية وأنت تراهم يهللون فرحين فرحة غامرة بالخروج متعادلين على ملعبهم اليوم أمام فريق من جنوب إسبانيا لم يحصل على الدوري في بلاده منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى وإن كان الأكثر تتويجًا ببطولة الدوري الأوروبي التي ينظر إليها في الأخير نظرة دونية مقارنة بدوري الأبطال الذي ناله اليوفي أكثر من مرة!.

ولكن وضع المباراة وشبح الهزيمة المُذل على ملعبهم الذي أخذ يكبر كلما مر الوقت أخد يقلل من طموحاتهم ويكسر نفسيتهم شيئا فشيئا حتى رأينا هذا الذي حدث بعد المباراة!.

وهو أمر عفوي وطبيعي ولكنه ذكرني بذلك الذي يحدث معنا ويُفعل بنا في الحياة العامة وكيف يتعامل الطغاة المستبدون مع شعوبهم بنظرية الخنزير والزنزانة!.

وهى القصة المشهورة التي تحكي عن أحد الحكام الظلمة عندما أمر باعتقال مواطن وحبسه انفراديًا في إحدى الزنازين بالسجن،

فغضب المواطن وظل يركل باب زنزانته ويصرخ: «أنا بريء، لماذا تم اعتقالي وإيداعي السجن؟!»،

ولأنه تجرأ ورفع صوته قائلًا «أنا بريء» وأحدث بعض الضجيج، أتت الأوامر بنقله إلى زنزانة أقل في المساحة، فعاود صراخه، لكن هذه المرة لم يقُل أنا بريء وإنما قال: «حرام تسجنونني في زنزانة لا يمكنني النوم فيها إلا جالسًا»!

صراخ المواطن مرةً أخرى أزعج سجانه، فأمر الأخير بإدخال تسعة سجناء آخرين معه في نفس الزنزانة، ولأن الوضع أصبح غير محتمل، نادى المساجين العشر مستغيثين:

«هذا الأمر غير مقبول، كيف لعشرة أشخاص أن يُحْشروا في زنزانةٍ واحدة؟ هكذا سنختنق ونموت، أرجوكم انقلوا خمسة منا على الأقل إلى زنزانةٍ أخرى»،

فما كان من السجان الذي غضب منهم كثيرًا بسبب صوتهم المرتفع، إلا أن أمر بإدخال خنزير في زنزانتهم وتركه يعيش بينهم.

جُن جنون هؤلاء المساكين وأخذوا يرددون: «كيف سنعيش مع هذا الحيوان القذر في زنزانة واحدة، شكله مقزز، ورائحة فضلاته التي ملأت المكان تكاد تقتلنا، أرجوكم لا نريد سوى إخراجه من هنا»، فأمر الحاكم السجان بإخراج الخنزير وتنظيف الزنزانة لهم، وبعد أيام، مر عليهم وسألهم عن أحوالهم، فقالوا: «حمدًا لله، لقد انتهت جميع مشاكلنا»!

وهكذا تحولت القضية إلى المطالبة بإخراج الخنزير من السجن فقط، ونُسيت قضية مساحة السجن والقضية التي قبلها والتي قبلها والتي قبلها، حتى ضاعت القضية الرئيسية الأولى وهي مظلومية الاعتقال وصرنا فقط نتمنى تحسين أحوال المظلومية وليس رفعها ومحو آثارها!.

وهو ما وعته الأنظمة المستبدة جيدًا فوضعت المواطن تحت ضغوط كبيرة وصادمة حتى إذا أصابته أي انفراجة بسيطة، سبح بحمد الحاكم وأشاد بعدله، وهذا لم يكن وليد هذه الأيام بل واجهته مصر على اختلاف حكامها، حتى أن الأستاذ «عمر التلمساني» روى في معرض كلامه عن الأيام السوداء التي عاشتها مصر في سبتمبر ١٩٨١م، وكيفية تعامل الإعلام معها، قصة مشابهة قائلا:

«هناك حكاية قديمة تقول: إن عصابة سرقت ثمن جاموسة من فلاح مسكين وحكمت بإعدامه، فلما تظلّم الفلاح أمام رئيس العصابة، حكم بإلغاء الإعدام مع احتفاظ العصابة للمال المسروق، فانصرف الفلاح فرحًا يصيح بصوته فليحيا العدل!»..

وهى نفس النظرية التي تتعامل بها دولة الكيان الإسرائيلية مع الدول العربية حيث بدأت الحكاية بالرفض التام وفلسطين عربية من البحر إلى النهر، وأنه لا يمكن القبول أو الاعتراف بأي دولة أخرى على شبر واحد من كامل الأراضي الفلسطينية، وبعد النكبة سنة ١٩٤٨م صرنا نتحدث عن نصف الأرض بشرط السيادة العربية على القدس الشريف، ثم بعد النكسة ١٩٦٧م تقلص الطموح إلى حدود ما قبل نكسة يونيو!..

وبعد «كامب ديفيد» والاعتراف الرسمي المصري لأول مرة عربيًّا بالدولة الإسـرائيلية في ١٩٧٩م رفعنا شعار الأرض مقابل السلام والرضى بالضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية التي تمثل مجتمعة أقل من ربع الأراضي الفلسطينية المحتلة..

وبعد «أوسلو» ١٩٩٣م والاعتراف الفلسطيني بالصهاينة انهار مستوى الطموح حتى صرنا نطالب بالأمن مقابل السلام؟!.

والآن ولا أدري هل بلغنا القاع ومرحلة الخنزير أم لا؟!.

وهل هناك ما هو أسوأ في قادم الأيام ؟!!.

حيث صار السلام مقابل التطبيع وخدمة حكومات الدولة العبرية، وأصبحنا نرى ونسمع عن القصف والقتل والحصار المضروب على أهلنا في غزة لأنهم الفئة الوحيدة الباقية التي لم تخض في كل هذا الدنس وتستميت في محاولة المحافظة على الفتات الباقي من الكرامة العربية المسلوبة ووقف مسلسل التنازلات رافضة الاعتراف بوجود ما يسمى بالدولة الإسرائيلية!.

كتبه الفقير إلى عفو الله/ أحمد الشريف

١٢ مايو ٢٠٢٣م / ٢٢شوال ١٤٤٤هـ..

#معركة_الوعي_أم_المعارك !.