الاستبدال ظاهرة نصية يقصد بها استعمال عبارة مكان عبارة أخرى، فهو علاقة أفقية في نسيج النص تتمثل في استعمال لفظ يشترك مع سابقٍ في المفهوم ويختلف معه في المادة، إما مع اختلافهما في المدلول الخارجي أو مع اتفاقهما فيه، أي أنَّه يشمل إعادة المعنى بصورها المتنوعة، ويعرِّف هارفج الاستبدال بأنَّه «أيُّ ارتباط بين مكونين من مكونات النص أو عالم النص يسمح لثانيهما أن ينشط هيكل المعلومات المشتركة بينه وبين الأول» [النص والخطاب والإجراء ص300]، ومن ثمَّ فهو يشمل مجالًا متنوِّعًا من العلاقات المفهومية مثل فكرة العموم والخصوص بين الأقسام الفرعية والأقسام الأعم أو الأقسام العليا، والكلية والجزئية، والسببية، والقرب.

ومن نماذج الاستبدال في الكتاب العزيز قول الله جلَّ وعلا: ((وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) [البقرة: ٨٤ – ٨٥].

فقد استعمل البيان القرآني في الآية الأولى عبارتي (تسفكون دماءكم) و(تخرجون أنفسكم من دياركم)، ثم عدل في الآية الثانية إلى عبارة (تقتلون أنفسكم) مكان (تسفكون دماءكم)، وعبارة (فريقًا منكم) مكان (أنفسكم)، وهذا الاستبدال يستتبع أثرًا دلاليًّا ضرورة أنَّ اختلاف العبارة يقتضي اختلاف المعنى، كما أنَّ هذا الأثر الدلالي يترتب عليه أثر تداولي يتعلق بالمخاطبين من بني إسرائيل زمن النبي ﷺ.

ودعنا أولا نستجلي الفرق الدلالي بين كل زوجين؛ فأمَّا الزوج الأول (تسفكون دماءكم / تقتلون أنفسكم) فإنَّ الفرق بين طرفيه يكمن في أنَّ عبارة (تسفكون دماءكم) ليست نصًّا في القتل الذي هو إزهاق الروح، إذ هي بمعنى إسالة الدم، وذلك كناية عن القتل، فلما شاع استعمالها في المكني عنه صارت ظاهرة الدلالة عليه، والعبارة الثانية نصٌّ فيه، والفرق بين النص والظاهر أنَّ النصَّ يدل على معنى لا يحتمل غيره، والظاهر يدل على معنى راجح ويحتمل غيره بمرجوحية، وإنْ كانت كلتا العبارتين محتملة من جهة المفعول به، فإن المعنى يحتمل أن يكون: لا يسفكْ كلُّ واحد دمَه، ويقتلُ كل واحد منكم نفسَه، وأن يكون: لا يسفكْ بعضكم دمَ بعضٍ، ويقتلُ بعضُكم بعضًا، لكنَّ خفض درجة الإعلامية جاء في جهة واحدة من دلالة العبارة وهي الانتقال من الكناية إلى التصريح، وذلك لأنَّ الاحتمال في المفعول ساقط بقرينة المقام إذ إنَّ تقريع بني إسرائيل في الآية الكريمة كان بسبب قتل بعضهم بعضًا، وإعانة بعضهم على إخراج بعضٍ آخر.

وأمَّا الزوج الثاني (تخرجون أنفسكم / تخرجون فريقًا منكم) فإنَّ طرفه الأول يحتمل أيضًا أن يخرج كل واحد نفسه، وأنْ يخرج بعضهم بعضًا، فيختلف فاعل الإخراج عن مفعوله وإنْ كانا جميعًا من جنس واحد، في حين أنَّ الطرف الثاني نصٌّ في معنى إخراج بعضهم بعضًا، فما حدث هنا أيضًا انتقال من المحتمل إلى غير المحتمل، ولم يُكْتَفَ هنا بقرينة دلالة المقام على معنى إخراج البعض، ولعل ذلك لأنَّ الإخراج غير القتل، من جهة أنَّ الخروج لو وقع من الجميع كان كلا خروج للاعتزاء بالمجموع، فكان التصريح بإخراج البعض أنسب للتوبيخ والمؤاخذة.

فإذا جئنا إلى الأثر التداولي لتلك الفروق الدلالية فإننا نستطيع أنْ ندرك ما في خفض الإعلامية بالانتقال من الكناية إلى التصريح ومن المحتمل إلى غيره، مع أنَّ الحال كافية في الدلالة على الوجه المراد – من المناداة على غفلة المخاطبين وغبائهم وضعف عقولهم حيث نكثوا ميثاق ربهم بعد أن أقروا عليه شاهدين على أنفسهم.

ويضاف إلى ما سبق أنَّ المنهي عنه في الآية الأولى يتناول طرفين أدنى وهو سفك الدماء وأعلى وهو القتل، فلما وقعوا في الأعلى كان النص عليه أشدَّ تقريعًا وتوبيخًا لهم، وكأنَّه قيل: نحن نهيناكم عن مجرد إسالة الدماء وأنتم وقعتم في القتل الذي هو أعظم، وكذلك النهي عن إخراج الأنفس فإنَّه يتناول التسبب في خروج الجميع وهو كما أشرت أخف من إخراج البعض، فلمَّا وقعوا في الأشدِّ كان النصُّ عليه أعظم مؤاخذةً. والله تعالى أعلى وأعلم.