(1) قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهمَّ أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفًا».
(2) وقالَ أعرابيٌّ وقد ذهب بابنه السيل: “اللَّهمَّ إِن كنت قد أبليت، فإِنَّكَ طالما قد عافيت”.
(3) الحُرّ إذاَ وَعَدَ وفى، وإذَا أعان كفى، وإِذَا مَلَك عفا.
(4) زُر غِبًّا؛ تزدد حُبًّا.
(5) أتبع الفرس لجامها، والناقة زمامها.
(6) لا تهرفْ بما لا تعرفْ.
كل نموذج من هذه النماذج مركب من أجزاء متشابهة في الحرفِ الأخير، ويُسمي هذا الضربُ مِنَ التوازنِ الصوتي (سجعًا).
وينبغي أَن يكونَ السجعُ أداة للوصولِ إلى لُبِّ المعني وتلمِّس نَواح منه يصعب التوفيق إليها بغير هذه “الحيلة”.
وأنتَ إذا قرأت الحديث الشريف في النموذج الأوَّل -مثلًا- وجدت مَا في الدعاء من قوة وإخلاص وتوكيدٍ قربنا للسجع.
فالسجعُ الفني ليسَ حيلةً صوتية وليسَ تكثرًا ولا إعلانًا عن غزارة المادَةِ اللغويّة ولا قصدًا للأناقةِ في نفسها، وإِنَّما هو صورة صوتية يُمليها المعني فتزيد أداءه حُسنًا بتأثير هذا الرنين الصوتي المتشابه، أَمَّا الحيلة اللفظية من السجع الذي لا يثري به المعني فأشبه بمعطف غالي الثمن يلبس في الصيف، فهو إِن دَلَّ علي ثروةِ لابسهِ ينمُّ عن فِقدانهِ للذوقِ السليم ومجافاة مطلب الجوّ.
والسجع إِجمالًا ضرب من التوكيد بالصوتِ، وهو يتلون بألوانٍ متباينة حسبما يتعاون الصوت والمعنى في التعبير عَن المراد، فليسَ شك في أَنَّ الأعرابي الذي ذهب بابنه السيلُ – في النموذج الثاني – عبَّر بكلمته المسجوعة أحسنَ تعبيرٍ عن اطمئنانٍ مكينٍ في نفسهِ، وهل كنت تجد هذا واضحًا في كلامٍ مُرسلٍ بلا سجعٍ، كأن يقولَ: اللَّهمَّ إن كنت قد أبليت، فإِنَّك طالما منتحتي الخير والعافية(!) فسكون الأجزاء أو الكلمات الأخيرة (التي نسميها بالفواصل) ليسَ حركة لفظية، وإِنَّمَا هو مظهر لسكون عميق وجأش رابط وقبول سمح لقضاء الله عَزَّ وَجَلَّ.
على أَنَّ السجعَ أقرب مَا يكون إلى فطرة اللغةِ، ولا يظهر في حضارة قوامها الفكر والتقدّم والسرعة والشواغل المعقدة الكثيرة، لذلكَ نجدُ عِنْدَ الطفلِ الذي يمثل طفولة البشريَّة ميلًا إلى هذا اللونِ من الموسيقي سواء في النثر المسجوعِ أو في الشعرِ الذي يحبه ويحفظه ويردده.
وغالب الكُتّاب يكتفونَ بتوازن خالٍ من السجع أو بتناسب عام بينَ مقادير العباراتِ وطولها ووقعها في الأذن.
واقرأ هذه القطعة “للجاحظ”: ” جَنَّبكَ الله الشبهة، وعصمكَ من الحيرَةِ، وجعلَ بينكَ وبينَ المعرفة نسبًا وبين الصدق سببًا، وحَبَّبَ إليْكَ التثبت، وزبَّن في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبكَ عِزَّ الحقِّ، وأوْدعَ صدركَ بَرْد اليقين، وطرد عنكَ ذلَّ اليأسِ، وعَرَّفكَ مَا في الباطلِ من الذلَّةِ، وما في الجهل من القِلِّةِ “.
فهذه قطعة جميلة كادت تخلو من السجع، ولكن الكاتب حرصَ على تناسق مجمل بينَ طول أجزائها وصدي كل منها مع نظيرهِ، فبعث الروعَة والإعجاب بالروحِ الصافية في التعبيرِ.
وانظر كذلكَ في قطعَةٍ للدكتور “طه حسين”: ”أقبَلْنَ مَعَ ضوء النهار يسعين سعي النسيمِ، يسبقهن عَرْفُ المسك، ونَشْرِ القرنفلِ، ويحملنَ من نديِّ الأزهار وشهِيِّ الثمارِ، ومن رَطْبِ الأغصانِ وجنيِّ الريحان ما يصور الطبيعة، وقد أيْقظها بَرْدُ السَّحَر وَمَسُّ الندَي وغناء الطير، فجرت فيها رِعْدة الحياة، ثُمَّ استقبلت ضوءَ الصبحِ باسمةً له مُقدمة عليه… ثم تريد أن تعبر ما بين ساحليه من مطلع الشمس إلى مغيبها، وكن قاصراتِ الطَّرْف فاترات اللَّحظ، ساحراتِ العيون، وكُنَّ واضحاتِ الجباه، قاتمات الشعور، وكن عِذَابَ الأصواتِ، مِلَاحَ الألفاظِ، فاتناتِ الألحانِ”.
وهكذا حَلَّ التناسب (أو الازدواج[1]) محل السجعِ، وكان هذا أبعث علي إخفاء الأناقة، وأقرب إلى الوفاء بمطالب المعنى والفكرة، وخصوصًا في حضارةٍ ثرية بالمعاني والأفكار، وهو في الوقت نفسه لا يضيع علي الأذن لذتها في الاستماع.
ومعلوم أَنَّ السجعَ يكثر في الأمثالِ، كما في النماذج التي مرت بنا، والسجع يُسيِّرها في الآفاقِ، ويدل علي ما قررناه من أنه حلية فطرية، وقد يقصد إليه في بعض الأحيانِ ظرفًا وملاحة، وهنا قد يظهر عليه التكلف والصناعة، فيضطر الكاتب إلى تكرار المعني أو إقحام لفظ يجاوزه أو يغيره، وقد سئل “بديع الزمان الهمذاني” مرةً: “مَا أحسن السجع؟!”، فقالَ: “مَا خف علي السمع”، فقيل له: “مثل ماذا؟”، فقالَ: “مثل هذا” -يقصد السجع في: ما أحسن السجع.. مَا خف على السمع.
————-
د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن
——-
[1] الازدواج اصطلاحًا: تجانس اللفظين المتجاورين، نحو: من جد وجد، ومن لج ولج، .. وهو هنا أطلق علي معني آخر (كما هو واضح).