السيد أبو داود

 

في الحياة مواقف فاصلة بين الحق والباطل، ومقيمة للحجة على الناس: [لِّیَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَیِّنَة وَیَحۡیَىٰ مَنۡ حَیَّ عَنۢ بَیِّنَةۗ].

ابتلى الله مصر بتيار لم يكن فيه من الخير شيء، بل كانت محصلته سلبية على مختلف الأصعدة، ومن رموز هذا التيار وأعمدته كان الشيخ محمد حسين يعقوب، الذي ملأ الآفاق بخطبه وآرائه، ثم دانت له الدنيا وانفتحت له مغاليقها، وأصبح يملك برامج على الفضائيات لم تتح لغيره، قال فيها كل ما يريد وما يتمنى، واستضاف من شاء ومنع من شاء.. تكلم في كل شيء، وأفتى في كل شيء، ولم يقل عن شيء إنه لا يعرفه.

كان هو ومن على شاكلته، أداة في يد الدولة.. بل في يد أجهزة الأمن تحديدًا، تحركهم وتوظفهم من أجل الترويج لفكر معين، لمواجهة فكر معين.. وهو ما اعترف به مسئولون كثيرون.. ولم يعد خافيًا.

كانت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١م، كاشفة وفاضحة، وكانت مثل سورة التوبة التي فضحت وعرت الكثيرين، فعاداها يعقوب وزمرته في بدايتها، لكن لما حققت بعض الانتصارات بدأ القوم في التراجع ونفاق الثورة والثوار.. وبدأت الأفكار والمواقف تتغير.. وبدأ الرجل بتغير لدرجة أنه تحدث عن «غزوة الصناديق».. رغم أنه قبل ذلك لم يكن يعترف بالأحزاب والصناديق والانتخابات!!

مع وصول الرئيس الإسلامي للسلطة، وهو الأمل الذي تمناه كل مخلص من عشرات السنين، بدأ يعقوب وزمرته في غمزه ولمزه وهمزه وانتقاده والإساءة إليه.. وتعاونوا مع الشارد والوارد لإزاحته.

حينما أراد الله تعالى إظهار الحق.. اضطره أن يكون شاهد نفي في قضية قد اتهم فيها شباب من الذين أعجبوا به وبفكره بل فتنوا وتيموا به.. الأدهى أنه لم يكن شاهد إثبات إنما كان مجرد شاهد نفي.. لم يكن متهمًا ولا شاهد إثبات.. ولكن الكبير العظيم العلي القدير أراد أن يفضحه على رؤوس الأشهاد.

كان خائفًا مرعوبًا متراجعًا مهزومًا جبانًا.. كل الخوف وكل الرعب وكل التراجع وكل الهزيمة وكل الجبن.. لدرجة أنه طلب من القاضي في بداية شهادته أن يمنع التصوير.. لماذا يخاف هذا الأسد من التصوير؟ هل يخاف من أن ينطق بكلمة الحق؟ هل يخاف أن يسمع الناس شهادته؟

ثم يتواصل الجبن والخوف والتراجع.. فالله سبحانه يقول: [وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِیثَـٰقَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ لَتُبَیِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُ..] والعالم الحق وكل صاحب علم، مطالب بتبليغه وعدم كتمانه.. لكنه أمام المحكمة كان يلف ويدور ويراوغ ويتهرب.. يقول لهم: لا أعرف شيئًا.. لست عالمًا.. لا أفتي.

عندي رغبة في أن أقابل الشباب المتهمين الذين طلبوه للشهادة، وأعرف منهم وأسألهم: كيف تعرفوا عليه وعلى فكره؟ وماذا كان يمثل فكره بالنسبة لهم؟ وما هو شعورهم الآن وقد خذلهم .. وربما أسلمهم لحبل المشنقة؟

العالم الحق هو الذي إذا سئل أجاب ولم يخف، هو الذي ينطق بالحق ولا يتردد، هو الذي يخاف الله ولا يخاف الناس.

رحم الله الشيخ الغزالي وهو يشهد في قضية اغتيال فرج فودة.. كان عالمًا حقيقيًا.. كان عند ظن الناس به.. كان كما عرفوه وعهدوه وخبروه.. قال وشهد وبيّن ووضح ولم يتردد ولم يجامل ولم يتهرب ولم ينافق.. وكانت شهادته سببًا في إنقاذ الكثيرين من حبل المشنقة وفي تخفيف الحكم عن بعض المتهمين.. هذا هو الفارق بين رجلين كلاهما ينتسب إلى العلم .. لكن عقل وقلب كل منهما في اتجاه مختلف: [.. مِنكُم مَّن یُرِیدُ ٱلدُّنۡیَا وَمِنكُم مَّن یُرِیدُ ٱلۡـَٔاخِرَةَۚ..].

من السيد أبو داود

كاتب صحفي، مصر