السيد أبو داود

 

كيف أعاد اللورد كرومر هيكلة وبناء النخبة المصرية وهندستها وراثيًا؟

ـ حينما دخل الإنجليز مصر في سبتمبر عام ١٨٨٢م، بعد أن هزموا أحمد عرابي وقواته، كان أول شيئ فعلوه هو اعتقال عرابي مع كبار قادته ومساعديه ومحاكمة وتأديب ومحاسبة الضباط الذين اشتركوا في الثورة العرابية وقتال الإنجليز، وتسريح صغار الضباط الموالين للحركة الوطنية، وإعادة هيكلة الجيش وتسريح الضباط وتكوين جيش أصغر ما بين ٦ ـ ٩ آلاف جندي وضابط، كل قياداته ومخابراته والمراكز المهمة فيه من الإنجليز، وتجهيل الجيش المصري فصار يؤخذ للمدرسة الحربية في عهد الاحتلال من ساقطي الشهادة الابتدائية وقليل من حملة الشهادة الابتدائية، والقضاء على الصناعات الحربية، وإلغاء جميع الترسانات التي أُنشئت في العصور السابقة لصناعة المدافع والبنادق والذخائر، وأصبحت ذخيرة الجيش المصري تُشترى من بريطانيا حصرًا.

 

ـ هكذا سيطر الإنجليز على الجيش المصري المجاهد الغازي الذي كان يمتلئ بالروح الوطنية .. أخرسوه وأماتوه وهيكلوه وسرحوه ونسفوه نسفًا وأعادوا تشكيله بأعداد قليلة جدًا من الجهلة عديمي الوطنية الذين يدينون بالولاء والحب والعمالة للمستعمر … وما فعلوه مع الجيش فعلوه في الحياة السياسية، وفي التعليم، والثقافة، وفي الإعلام .. الخ.

 

ـ ولما أراد الاحتلال السيطرة على الحياة السياسية والاقتصادية في مصر، ولما كان الضباط والجنرالات غير مؤهلين لهذه المهمة .. فقد عُهد بها إلى رجل شديد الخبرة السياسية، وهو اللورد دوفرين سفير إنجلترا السابق في إسطنبول، فجاء إلى القاهرة بعد شهر من الاحتلال، ومكث فيها بضعة أشهر يتأمل أوضاعها، ثم رفع تقريرًا شديد الأهمية والخطورة إلى وزير خارجية إنجلترا، وضع فيه أسس السياسة التي يجب أن تتبعها بريطانيا في مصر، وهو ما سارت عليه فعلاً حتى الجلاء ونهاية الاحتلال، وقد ذكر فيه أنه لا ينصح بأن تتولى إنجلترا حكم مصر المباشر، لأن ذلك سيُثير سخط المصريين وكراهيتهم، ولكن تكون بصورة أقل ومن وراء الستار. وطالب بتعيين مفتش عام للبوليس ومساعد له من الإنجليز .. يعاونه بعض المفتشين البريطانيين، كما أوضح أن مصر ليست مؤهلة لأن يكون لها مجلس نيابي وحكومة ديمقراطية، وبالنسبة للقضاء نصح بضرورة إدخال العناصر الأوروبية في المحاكم المصرية، وإسناد وظيفة النائب العام إلى شخصية إنجليزية، وفيما يتعلق بأمور الري والزراعة نصح بأن يتولى هذه المسؤولية أحد كبار المهندسين الإنجليز في الهند للتشابه الكبير بين نظامي الري الهندي والمصري.

 

ـ ولتنفيذ توصيات اللورد دوفرين، أرسلت بريطانيا رجلها القوي المحنك الخبير ليحكم مصر، وهو رجل السياسة والإدارة والمستعمرات اللورد كرومر، الذي حكم مصر لنحو ربع قرن كامل، من عام  ١٨٨٣ ـ ١٩٠٧م، هدم خلالها مصر الإسلامية الماضية .. وأعاد بناءها وهيكلتها وهندستها وصياغتها على أسس جديدة تمامًا، لا تمت للماضي وللإسلام بصلة، وبصفة خاصة طبقة النخبة التي ستحكم مصر والتي ستوجه وستقود الرأي العام المصري.

 

ـ فعلى الجانب السياسي، خضعت الحكومة المصرية ـ وعلى رأسها الخديوي ومجلس النظّار ـ لسياسة اللورد كرومر وأوامره، وكان خضوعًا تامًا وكاملاً.

 

ـ واقتصاديًا، عمل اللورد كرومر على تحسين الأحوال المالية لمصر، ليس حبًا في مصر والمصريين، ولكن لدفع أقساط الديون الكارثية التي كان الخديو إسماعيل قد أسقط فيها البلاد، والتي كانت أحد الأسباب الرئيسة في ازدياد نفوذ الأجانب في البلاد وما تبع ذلك من الثورة العرابية، ثم أخيرًا الاحتلال البريطاني القادم بحجة حماية الخديوي وحفظ النظام ودفع أقساط الدائنين. وكان منطقيًا أن يفرض كرومر المزيد من الضرائب على الفلاحين من أجل تنفيذ خططه.

 

ـ بعد أن استتب الحكم لبريطانيا في مصر عسكريًا وسياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، بدأ كرومر يفكر في الأفكار والقيم وما يبني العقول، وأخذ يخطط للسيطرة على الثقافة والتعليم، فوضع أسس صحافة عميلة للاحتلال البريطاني، تناطح وتواجه الصحافة الوطنية التي كانت لسان الشعب المصري وأحزابه المناوئة للاحتلال ومشروعه وأهدافه، وكانت صحيفة “المقطم” التي أنشأها كلٌّ من فارس نمر ويعقوب صرُّوف وشاهين مكاريوس سنة ١٨٨٩م هي المدافع الأول والأبرز عن الاحتلال، وكانت تبث اليأس في نفوس المصريين من مقاومة الإنجليز وتشوه الوطنيين والحركة الوطنية.

 

ـ كانت أخطر الخطوات التي قام بها كرومر لتأكيد السيطرة البريطانية على التعليم في مصر، تعيينه لأحد كبار المنصّرين البريطانيين في مصر وهو دوجلاس دنلوب الذي تولى وزارة المعارف لأكثر من ربع قرن، واستقدم فيها المعلمين الإنجليز وأعطاهم مرتبات كبيرة للغاية مقارنة بالمعلمين المصريين، وحرص على فرض التعليم في سنواته الإلزامية والإعدادية باللغة الإنجليزية، وحرص أيضًا على تغيير المناهج التعليمية بما يتواءم مع أهداف الاحتلال البريطاني والتغريب والتبشير في مصر، والتشكيك في الحضارة الإسلامية وتاريخ الإسلام. وإلى جانب إلغاء المدارس قام الاحتلال بإلغاء مجانية التعليم في المدارس كافة حتى يُصبح التعليم ممنوعًا على معظم الشعب المصري الذي لا يستطيع أن يدفع مصروفات التعليم. كما قلص بشكل كبير جدًا التعليم العالي.

 

ـ في الجانب الثقافي والفكري، أعاد كرومر خلال ربع قرن كامل، تشكيل النخبة الثقافية والفكرية والسياسية وفق النموذج الغربي الذي رسخه الاحتلال، ويمكننا أن نجد وصفًا وتفصيلاً دقيقًا لذلك في كتابه “مصر الحديثة”.

 

ـ كان للورد كرومر دور كبير في النجاح الذي شهدته عملية تغريب النخبة المصرية، كما أنه صاحب تأثير كبير فيما يتعلق بتهميش فكرة الانتماء إلى العالم الإسلامي، أو ما كان يسميه هو فكرة “الجامعة الإسلامية”، بين صفوف هذه النخبة، وفي كتابه “مصر الحديثة”، سرد كرومر عددًا من النقاط التي تصلح في مجملها لفهم أزمة النخبة العلمانية في مصر، فقد كان أهم جزء من نشاط كرومر ينصب حول صناعة نخبة متغربة، تستلهم الاحتلال في أفكارها وقيمها وبرامجها وتعارضه فقط من حيث وجوده المادي المباشر على الأرض المصرية. بعبارة أخرى نخبة تعارض المشروع السياسي لدولة الاحتلال من حيث الشكل وليس من حيث المضمون.

 

ـ وقد حدد كرومر خصائص هذه النخبة بأنها غير معنية بالدين أو بالرابطة الدينية، “وحتى من يعلي منهم راية الجامعة الإسلامية فإنه يفعل ذلك لأغراض سياسية أو براجماتية”. ومما حال بين هذه النخبة وبين الانخراط تحت راية الجامعة الإسلامية وفقا لكرومر، “أن معظم أفرادها لا يعتقدون أن مبادئ الإسلام التي نزل بها الوحي منذ أكثر من ألف عام، هدى لجماعة في حالة الفطرة، تصلح للتطبيق في هذا العصر”، “خاصة أن من هذه المبادئ ما يجيز الرق، ومنها ما يتضمن سننًا وشرائع عن علاقة الرجال بالنساء مناقضة لآراء أهل العصر الحديث، ومنها ما يتضمن إفراغ القوانين المدنية والجنائية والملية في قالب واحد”. وقد خلص كرومر إلى أنه ونظرًا لهذه الأسباب تستنكر النخبة المهتمة بإصلاح مصر الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، أو تناصرها مناصرة ظاهرية فحسب. وقد أوصى كرومر الحكومة البريطانية بأن تبذل أقصى جهد لحماية هذه النخبة، لكي لا تجتذبها حركة الجامعة الإسلامية، التي كان يعتبرها خصمًا صريحًا لمشروع بلاده ومصالحها.

 

ـ مشروع كرومر كان يعني بناء نخبة جديدة، ليس على أسس ثفافية وفكرية ومنطلقات إسلامية، بل مخاصمة ومعارضة ومضادة لهذه الأسس والمنطلقات الإسلامية، ومسفهة لها، ومشككة فيها.

 

ـ والحقيقة، أنه رغم خطورة ما فعله كرومر، فإن الاتجاه العلماني الذي وضع بذرته محمد علي ثم أكمله أبناؤه من بعده، قد مهد الأرض لإنجاح مشروع كرومر، فالحاكم البريطاني لم يبدأ إذًا مشروعه من فراغ، ولكن محمد علي وأبناءه كانوا قد لعبوا في جينات النخبة التي تقود الرأي العام، وجعلوها مستعدة لتقبل مشروع كرومر.

 

ـ بعد أن أمضى اللورد كرومر ربع قرن في حكم مصر، كان كل شيئ قد تغير، ماتت الأجيال كبيرة السن، وكبر الشباب الذين تشربوا سياسة كرومر الثقافية والذين تعلموا حسب مناهجه المخططة والمعدة لتحقيق أهداف محددة، ونضج أفراد النخبة المختارة بعد أن تشربوا أفكار كرومر والاحتلال، ثم وجدوا أنفسهم مسيطرين على التعليم والصحافة والثقافة وحركة الأفكار في المجتمع المصري.

 

ـ وللأسف ظل مشروع كرومر ينمو، وينضج، ويعمل في التربة المصرية، ويتفاعل مع الواقع، ويشكل العقول والمفاهيم، حتى بعد ثورة ١٩١٩م، بفعل ما يملكه من مصادر قوة يفرضها المحتل فرضًا في التعليم والثقافة والصحافة، ويكفي أن قائد هذه الثورة “سعد زغلول”، كان أحد رموز نخبة كرومر، حيث آمن بأفكاره وصانها ودعم هدى شعراوي ـ في اعتدائها على الحجاب ـ على أساسها، ثم جاءت حركة يوليو ١٩٥٢م فكانت أكبر حارس لمشروع كرومر وأفكاره، واختارت نخبتها على نفس أسس ومعايير ومنطلقات كرومر!!

من السيد أبو داود

كاتب صحفي، مصر