ليس بعجيب أن يكون النظر البلاغي والنحوي عند المتقدمين حصيرا في مفردات الشواهد والأمثلة إلا قليلا؛ فكذلك كانت الحال في الدرس اللساني لألسنة البشر إلى الستينيات من القرن الدابر لا نستثني لسانا؛ ومن ثَمَّ كانت محاولات الخروج بالتحليل من ضِيق الشاهد والمثال المفرد إلى سعة النص، ومن المعالجة التفتيتية إلى المعالجة النسقية أظهرَ ما شغل علماء اللسان ؛وبذلك نشأت اللسانيات النصية (أو ما شاعت تسميته “نحو النص”).

 

وقد كان من سوء حظ التراث البلاغي العظيم الذي أُورِثْناه أن يتلقاه بعض بني جلدتنا بالجحود ، ويولي كثير منهم وجهه قِبَلَ الغرب لواذًا بِهِ واستمدادا منه غير حزانى ولا آسفين على وأد هذا العلم المستطيل. ولقد بدا لي أن للمسألة وجها آخر؛ إذ إن كثيرا من فنون البلاغة لا تزال مؤهلة بكفاية عالية لأن تقدم عطاء سخيا للدراسة النصية، وإن لنا في علم البديع لعبرة.

 

لقد أشبعه المتقدمون درسا وتفننا، ونظموا فيه عشرات من القصائد سميت بالبديعيات، ولكنه ظل في أدبياتهم خنيقا يتذَيَّلُ علوم البلاغة وليس له من عمل إلا التحسين اللفظي والمعنوي أو استثماره في صناعة النكتة والنادرة.

 

فلما ظهرت الدراسات النصية استطاعت بِطَغْواها أن تمكِّن لعلم البديع، وتحله مكانا عليا بين وسائل السبك والحبك التي هي قوام النص والنصية.

 

وقد أفصحت عن هذه الفكرة في بحث لي عنوانه: “نحو أجرومية للنص الشعري”، واستنهضت همة أبنائنا من الباحثين لاقتحام الميدان، فتقبلها تلميذ نجيب مشترك لي وللناقد المكين علي البطل رحمه الله، وهو الأستاذ الدكتور جميل عبد المجيد ليجعلها أطروحته للدكتوراه بعنوان: “علم البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية”.

 

سأضرب مثلا به يستبين الأمر. عرف البلاغيون المتقدمون لنا بديعيا سموه “رد الأعجاز على الصدور”، وعرفوه بأنه إعادة كلمة واردة في صدر الكلام جملةً أوبيتًا بتكرارها في آخر الكلام ، ومن أمثلة هذا الفن قول الشاعر :

[سريعٌ إلى ابن العَمِّ يلطم وجهه ** وليس إلى داعي الندى بسريع ]

 

وقوله:

[ تمتع من شميم عرار نجدٍ ** فما بعد العشية من عرار  ]

 

وقول شوقي:

[ كم بنينا من حصاها أرْبُعًا ** وانثنينا فمحونا الأربُعَا ].

 

كان هذا غاية ما بلغه التعريف والتمثيل لهذا الفن في البلاغة المدرسية. غير أن المتدبر لسورة الواقعة واجد في صدر السورة قوله تعالى:

_. (( وكنتم أزواجا ثلاثة * فأصحاب الميمنة ما أصْحَابُ الميمنة * وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة * والسابقون السابقون * أولئك المقربون )) .

 

كما أنه واجد في صدرها أيضا :

ـ((وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين)) و((والسابقون السابقون)) و((وأصحاب الشمال )).

 

ثم إنه واجد في نهايتها السورة:

ـ (( فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم )) و(( وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين )) و(( أما إن كان من المكذبين الضالين * فنُزُلٌ من حميم * وتصلية جحيم ))

 

وهكذا تجد نموذجا مركبا من رد عجز النص على صدره، يعتنق فيه السبك الحبك، ويجري فيه الرد بأنواع مختلفة من السوابك مثل الترادف وتوازي الصياغة وتشويش الترتيب وتستعلن مظاهر الجمال في البيان القرآني. وينتقل الفن البلاغي من ضِيقَ المثال إلى سعة النص، ومن قطيعة التفتيت إلى تضافر النسق. وقد كان كلامنا هذا من زمن ليس بالقريب، ومع هذا لم نجد من يفيد منه، وقد خلف من بعدنا خلف أنجزوا أطروحاتهم في ما سموه “التماسك النصي في سورة الواقعة” [ويا لبشاعة المصطلح!]، فاقتصر عملهم على تتبع مظاهر التكرار الساذجة، ورصد الإحالات الظاهرة. وأهدروا نصية النص، كما ظلموا البلاغة القديمة؛ إذ استذلتهم العَجَلة ببعض ما كسبوا من قشور الحداثة دون اللبوب .

 

وعلى ذلك فَقِسْ في فنون بلاغية أخرى كثيرة .

من د. سعد مصلوح

أستاذ في اللسانيات والنقد