د. سعد مصلوح

كان المزاج المتنافي بيني وبين رئيس قسمي في دار العلوم رحمه الله حاكما ومهيمناً على العلائق منذ أمد ليس بالقريب، ولعل في الإمكان رَجْعُه – عند اقتصاص أثره- إلى العام الأول من تعييني معيدا في حادثة يصعب عليَّ إخراج خَبْئِها من كمين صدري.

وفي سنة 1983 علت ألسنة اللهب، وغلت القدر بيننا حتى سُمِع لها كتيت،

 وانتهى بنا الأمر إلي مجلس صلح قادني إليه الحياء من أستاذي العظيم حلمي محمد أحمد الذي توسط في الأمر، وصحبني إليه الأستاذ العميد، وحضره مأمون سلامة عميد الحقوق والمستشار القانوني للجامعة، وتصدره حسن حمدي رئيس الجامعة آنذاك في مكتبه؛ رحمهم الله جميعا،

ولقصة هذا المجلس ذيول طوال، لعل مَساحِبَها لا تزال ممتددة في حياتي إلى يوم الناس هذا ؛ إذ بلغتُ بها ذروة المغاضبة التي ألقت بي إلى يَمِّ الاغتراب، غير عابئ بسنين ثلاث من الأقدمية في درجة الأستاذ المساعد، ولا بأن الأستاذية كانت مني على طرف الثُّمام، وهأنذا لا أزال ناظرا أن يلقيني اليم بالساحل بعد أن أعياني طول السّبْح والغَسِّ في موج كالجبال.

 وتعجب لما جرت به المقادير من بعد. كنت سنة 1990 في إجازتي الصيفية في القاهرة، وصحونا ذات صباح وإذا الأرض قد زلزلت زلزالها، ووقع الغزو الشهير لأرض الكويت، وكان أن فُتِح الباب المؤصد أمام الأساتذة المغتربين للعودة إلى الجامعات.

ولأمر ما تجاذبني عدد من الكليات في جامعات شتى حاشا دار العلوم، إذ اشترط علي الوسطاء أن أكتب طلبين متلازمين بتاريخين متراخيين ؛ أحدهما للعودة إلى الدار، والآخر للنقل بعدها إلى الفيوم، وما كنت لأعطي الدنية من نفسي بالقبول، وفي هذا الحَلَك يسفر وجه الراحل العزيز سيد حنفي رحمه الله، ويستكتبني طلبا للعمل في كلية الآداب في بني سويف، ويحسم بهذا الطلب التنازع بين كليته ومعهد الدراسات الإفريقية في مجلس الجامعة، وما إن يقر قراري في معيته حتي يزين لي التقدم للترقية، ويحتسب معي مدة الأقدمية في درجة الأستاذ المساعد بالأيام والشهور.

 قلت: هذا أوان الشد فاشتدي زِيَم. وجلست لإعداد الأوراق والبحوث فأذهلتني المفاجأة. لقد استبان لي أن ما أنجزته ما بين عامي 1980و1990 ليس بالقليل، مع أن عملي كان عن رَغَبٍ وشغفٍ خالصين لطلب العلم ؛ إذ طَوَّحْتُ بعيدا بالأمل في الترقية، ولم يعد التحلي بلقب الأستاذية أمرا يتطالل له عنقي. وكان أن تقدمتُ إلى لجنة الترقيات بثلاثين عملا (إذ لم يكن ثمة حد أقصى)، وحصلت لي الترقية بنعمة من الله وفضل.

 أما المسعد بحق فهو أن كاتب تقرير الترقية كان هو الشيخ الجليل محمود مكي – فسح الله له في جنات النعيم – وأن تقريره جاء في ست عشرة صفحة كوامل، مكتنزة عدد الأسطر، وأنه عالج بالتقويم عشرين عملا وجعل العشرة الباقية من النشاط الثقافي العام، ثم إنه ختم تقريره الرائع بما نصه:

« في الصفحات السابقة قمنا بعرض للإنتاج الذي تقدم به الدكتور سعد مصلوح وهو يبلغ ثلاثين عملا، وإن كان من بين هذه الأعمال ما رأينا استبعاده من التقويم لأنه ينتمي إلى النشاط الثقافي العام.

على أن ما يستوقف النظر في هذا الإنتاج – فضلا عن غزارته بعد أن استبعدنا ما استبعدناه -هو أنه على مستوى رفيع من الجودة، وهو يدل على اطلاع واسع على التراث العربي؛

ولا سيما اللغوي والبلاغي، واستيعاب ذكي لإيجابياته وسلبياته،وطموح إلى دراسته على أسس جديدة، بالإضافة إلى معرفة عميقة بالمذاهب اللغوية الحديثة ومتابعة لها، والاستفادة الذكية منها،

ولعل أهم ما يميز تفكير المرشح هو إيمانه الراسخ بأن «الظاهرة الأدبية» يمكن أن تحلل بمنهج علمي تجريبي،

وأن تعالج بلغة العلم بعيدا عن الألفاظ الفضفاضة ذات الدلالات الغائمة، وهو لا يكتفي بتقديم مناهج نظرية، وإنما يطبق تلك المناهج على الأدب تطبيقا نظريا تجريبيا، كما أنه يعرض آراءه في لغة واضحة على قدر كبير من الجمال الأدبي مع إحكامها ودقتها.

 كل ذلك يؤهل الدكتور سعد مصلوح للترقية بجدارة إلى درجة أستاذ»

 إنها لشهادة وهَمُّكَ من شهادة !!

رحم الله من أحسن، وغفر الله لمن أساء.

من د. سعد مصلوح

أستاذ في اللسانيات والنقد