بعد هذه السنين وهذه الدماء ينبغي أن نكون قد تعلمنا هذه الأمور:

1. إسقاط النظم لم يعد قرارا شعبيا، إنما هو قرار دولي بالمقام الأول، وربما يمثل الحراك الشعبي دافعا أو محفزا للقرار الدولي أو لا، بحسب الموقف.

 

ويجب أن نعلم أن مبارك لم يسقط بهتافات التحرير بل بانقلاب الجيش، مرسي لم يسقط بسهرة 30 يونيو بل بانقلاب الجيش، ونفس الكلام ينطبق على السيسي.

 

ونفس الكلام يقال في علي عبد الله صالح والقذافي وبشار وزين العابدين بن علي!

 

2. فضح النظام عمل سهل، يمكن إنجازه بكاميرا موبايل وخطاب شعبي جميل.. لكن تغيير النظام عمل آخر ينتمي لمجال آخر من القوة والقدرة والعلاقات الدولية والمصالح.

 

3. محمد علي إما أن يكون واجهة لحراك داخل أجنحة النظام، وإما أن يكون رجلا صاحب مظلومية تفاجأ هو نفسه بحجم التفاعل معه فتصور أنه يمكن أن يكون مفجر ثورة.. لا يهم الآن تحليل ما حدث، دعونا ننظر في المآلات:

 

– إذا كان واجهة لحراك داخل النظام، فهو مدعوم منهم، وبافتراض أن هؤلاء الذين صعَّدوه وأظهروه قد أخذوا بكل الأسباب للإطاحة بالسيسي (وأهمها القرار الأمريكي والرضا الإسرائيلي طبعا)، فمعنى هذا أن النزول الجماهيري سيكون مثل سهرة 30 يونيو، مجرد غطاء لخطة قد دُبِّرت سابقا.

 

– إذا كان رجلا صاحب مظلومية ثم تفاجأ بالتفاعل معه، أو حتى تلقفته مجموعة ساخطين من أجنحة النظام التي فرمها السيسي (كالمخابرات وبعض المطرودين أو المحبوسين من العسكريين أو رجال مبارك أو رجال الأعمال… إلخ).. إذا كان هكذا فالجماهير ستُضرب بالرصاص الحي، فإن لم يكن فبالقنابل، فإن لم يكن فبالطائرات.

 

السيسي ليس أقل وحشية من بشار، والجيش المصري ليس أقل نجاسة وقذارة من جيش بشار.. والمفروض أن يكون هذا شيء واضح وكلام لا يحتاج إلى نقاش بعد هذه السنين.

 

4. هل معنى هذا أن نجلس في البيت؟!

 

لا، معنى هذا ألا تنزل إلى الشارع عاري الصدر أمام البندقية لتكرر نفس المذبحة التي حصلت أمام عينيك مئات المرات.. إذا أصررت على النزول فعليك بالآتي:

 

– أن تعلم أنك ديكور وواجهة وذريعة (في حال كان محمد علي واجهة جناح سلطوي يتحرك، ومن الممكن أن تفقد حياتك، وبالتأكيد لن يكون لرأيك أثر فيما بعد السيسي)

 

– أن تنزل ولديك ما تدافع به عن نفسك أمام السلاح والدبابة.. ولا تقلق، فلو كان انقلابا يريد حراكا جماهيريا للتغطية عليه وللتذرع به فلن يحاسبك أحد، بل ربما تكون بطلا.. أما إذا كانت صيحة مغرور موهوم فستُقتل لمجرد نزولك سواء كان لديك ما تدافع به عن نفسك أم لا.

 

5. هل معنى هذا أنه لا وسيلة لإسقاط نظام السيسي؟

 

الإجابة: لا يمكن إسقاط السيسي بمجرد الحراك الجماهيري السلمي المندفع في الشوارع.. من يخطط لإسقاط نظام السيسي فعليه أن يدبر للتخلص من السيسي نفسه، بغير هذا لن يتغير المشهد كثيرا.

 

على أنه يجب أن يكون معلوما أيضا أن العلامة الحقيقية لسقوط النظام في مصر هو نزول الاحتلال الأمريكي أو الإسرائيلي أو حتى الروسي.. النظام المصري منذ محمد علي باشا هو نظام يحقق مصلحة المحتل الأجنبي ويحكم بالوكالة عنه، وتهدد هذا النظام يساوي تحرك الوكيل الأجنبي لإسناده وإبقائه حاكما..

 

وهذا الكلام قلتُه مئات المرات في مئات المنشورات حتى مللتُ وأمللتُ، ولن أدخل كثيرا في التاريخ بل يكفي أن أقول: انظروا إلى سوريا.. حين عجز بشار جاءت إيران، وحين عجزت إيران جاءت روسيا، ولو عجزت روسيا لجاءت أمريكا.. عالمنا العربي لم يستقل ولم يحكم نفسه، الأنظمة الحاكمة منذ محمد علي في مصر، ومنذ ما بعد الحرب العالمية الأولى في سائر العالم العربي هي أنظمة صنعها الاحتلال الأجنبي.

 

6. أراك تبشرنا بمصير سوريا والعراق.. أليس عندك حل أفضل؟!

 

الحقيقة لا، ليس عندي حل أفضل.. أمامك عدد من المصائر يمكنك الاختيار من بينها:

 

– سوريا والعراق

– بورما وإفريقيا الوسطى والأندلس وتركستان الشرقية وكشمير

 

للأسف، الأمم التي تحررت دفعت ثمنا هائلا كي تتحرر، بما في ذلك إنجلترا وأمريكا وفرنسا، وحتى إسرائيل!!.. هل تتخيل أن الذين هم أحرص الناس على حياة والذين يتمنى الواحد منهم أن يعمر ألف سنة لم يستطع أن ينشئ دولته ومعه القوى العالمية إلا لما بذل دماءه الكثيرة الغزيرة، وبذل أمواله الكثيرة الغزيرة، وبذل دموعه الكثيرة الغزيرة، وبذل أكثر من ذلك مجهودا سياسيا ضخما عريضا هائلا لإدماج مصلحته في مصالح القوى الكبرى كي يتمكن من إنشاء دولته إسرائيل؟.. هل تتخيل؟!

 

7. ولكننا نجحنا في يناير بتكاليف قليلة وبسيطة!!

 

إذا كنت ترى أننا نجحنا في يناير.. فأعتذر عن إزعاجك بهذا المنشور الطويل، وأتمنى ألا تتحفني بتعليقاتك.. فالمسافة بيننا بعيدة

 

لكني أستطيع أن أفسر لك بعض أسباب هذا النجاح:

 

– أولا: قدرة الشعب على (كسر) الشرطة وحمل الناس مسؤولية حماية أنفسهم. وهذا قرار اتخذه الشعب بالفطرة والحمد لله أنه لم يسأل فيه أحدا من النخبة المخصية التي لم تكن لتحرضه على هذا.

 

– ثانيا: القرار الأمريكي بالتخلص من مبارك، وهو القرار الذي نفذه الجيش المصري صاغرا (لأن الجيش المصري عبد للأمريكان لا يستطيع أن يستقل عنهم أصلا)

 

– ثالثا: المراهنة الأمريكية على أن حكم الإخوان المسلمين سيساهم في امتصاص الحالة الإسلامية على نحو التجربة التركية الأربكانية ثم أوائل التجربة الأردوغانية.. لكن مرسي جاء في ظرف عصيب، وكانت سياسته بالنسبة لسوريا وغزة، والنموذج الذي سيحققه لو نجح مثيرا للرعب والفزع في إسرائيل وفي الخليج.. ثم قدم الإخوان نموذجا ممتازا (بالنسبة للأمريكان) في سهولة الانقلاب عليهم.. فانتقل الرهان الأمريكي من إسقاط مرسي بالانتخابات بعد 4 سنوات إلى إسقاطه بالانقلاب العسكري بعد سنة واحدة (كان بقاؤه 4 سنوات يؤدي إلى نتائج مريعة في غزة والشام والخليج والشمال الإفريقي).

 

8. أنت بهذا تقلل من قدرة الشعب المصري وتحتقر إمكانياته؟

 

الإجابة: لا.. لا أقلل من قدرة الشعب المصري.. أنا أقلل من قدرة (كل الشعوب)، بما فيها الشعب الأمريكي والإنجليزي والفرنسي والصيني والروسي.. المنظومة الحاكمة حاليا دوليا ووطنيا تجعل السلطة أكثر قوة بكثير من المجتمع، وقدرة السلطة على قهر المجتمعات أكبر من قدرة المجتمعات على إصلاح السلطة.. لكن بعض السلطات تسلك طريق القهر، وبعضها يسلك طريق الخداع.. فالخداع هو هذه الديمقراطية التي تراها في أوروبا وأمريكا، يشعر فيها الشعب أنه يختار بينما هو لا يختار.

 

ومعادلة الشعب والسلطة هذه هي المعادلة المستقرة تاريخيا، فالسلطة دائما أقوى من الشعب.. لكن الذي زاد في هذين القرنين الأخيرين هو اتساع الفارق في القوة بين الطرفين.. ولذلك كانت الثورات الشعبية الناجحة عبر التاريخ قليلة، أكثر منها بكثير الثورات الفاشلة.. ولذلك كان الذي يريد التغيير يخطط ويدبر ويحكم التدبير ويأخذ بالأسباب ثم يحارب أو ينقلب أو يغتال.. وحين ينجح يسميها (ثورة) ويكتب لها التاريخ!

 

الزعماء عبر التاريخ فكروا في الانقلاب والحرب أكثر بكثير من تفكيرهم في إشعال ثورة شعبية، نعم هم يستهدفون تثوير الشعب ضمن خطتهم وتدبيرهم، ويعلنون أنهم انتصروا بالشعب وللشعب ومن أجل الشعب.. لكن هم حين خططوا ودبروا لم يكونوا يقتصرون على تحريض الشعب، بل كانوا يضعون الشعب في مسارات خطتهم وخطوات تدبيرهم.

 

كل هذا الكلام كتبته عشرات أو حتى مئات المرات.. من يتابعني أعرف أنه ملَّ من ترداده، أنا نفسي مللتُ من كثرة كتابته.. لكن بعض الذين يحسنون الظن بي لا زالوا يلحون علي أن أكتب في شأن النزول غدا، حتى شعرت أنه صار من الأمانة والواجب أن أعيد هذا الكلام نفسه من جديد.

من محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية