د. أحمد موفق زيدان، كاتب صحفي سوري

عادة ما تمرّ البلاد في مراحل العبور لهزات، ومن ضمنها الهزات الاقتصادية، ما دامت البلاد مقبلة على نظام جديد، برحيل نظام بائد، فكيف إن كان الانتقال لطرف نقيض، محتل فتحرير، قوات احتلال،

فقوات مقاومة لديها مشروعها مناقض ومتضاد مع مشروع المحتل الذي رسّخ أقدامه لعقدين كاملين،

وبالتالي فمن المنطقي أن يواجه المشروع الجديد تحديات جمة، وتهديدات كبيرة، لكن ذلك بالتأكيد على حساب صون الحرية والاستقلال والكرامة،

وعلى حساب بناء مشاريع ونماذج تتناغم مع تضحيات قدمها الجهاد لعقدين كاملين، ولذا فالغرق باللحظة الراهنة،

في أن يكون الشخص أسيراً ورهينة لها، ستجعل منه مشولاً، ومستسلماً لواقعه،

وربما يوقعه تحت نير الاحتلال الاقتصادي بعد أن خرج من الاحتلال العسكري الظاهري،

فيُبدد كل تضحياته، وتذهب كل ما قدمه سُدى لا سمح الله.

حركة طالبان غير!

لا شك فإن أفغانستان عام 2021 التي حكمتها الحكومة الأفغانية الجديدة، لا علاقة لها بأفغانستان

التي تركتها حكومة طالبان يوم تآمر عليها تحالف غربي من 38 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية فخلعتها عن السلطة،

ولكن بالتأكيد فإن حركة طالبان التي وصلت إلى السلطة مع هزيمة القوات الغربية في أفغانستان،

ليست هي أيضاً حركة طالبان التي أسقطها التحالف الدولي عام 2001، إن كان من حيث القدرات العسكرية،

أو من حيث المهارات السياسية، والقدرات التنظيمية، فضلاً عن القاعدة الشعبية والمجتمعية

التي تعززت بفضل مقاومة الاحتلال على مدى عقدين من الزمن،

عزز ذلك تلاحم الطرفين، نحو الهدف المنشود الذي تحقق في الخامس عشر من آب الماضي بطرد المحتل بعد عقدين من الزمن على احتلاله.

احتلال وبلطجة اقتصادية أمريكية

أفغانستان اليوم تواجه احتلالاً وبلطجة اقتصادية أمريكية مكتملة الأركان، تتمثل في السطو العلني على عشرة مليارات دولار أميركية،

بحجة عقوبات فرضتها واشنطن على النظام الجديد، بينما كل مفاوضات الدوحة واتفاقياتها تنص على عكس ذلك،

ومع هذا ضربت واشنطن بكل تواقيعها عرض الحائط، وجمّدت هذه الأموال التي هي بالأساس أموال الشعب الأفغاني،

فدفع ثمن ذلك الموظف الأفغاني، من موظفين في إدارات الدولة الذين يخدمون الناس، وكذلك من معلمين عاديين الثمن،

في الوقت الذي تتباكى فيه واشنطن ومعها الغرب على تعليم المرأة، بينما يحرمون المعلمين من نساء ورجال أجورهم،

وقد مضى على عدم تلقيهم رواتبهم عدة أشهر، مما يهدد العملية التعليمية في أفغانستان، ويفضح كل دعاوي الغرب في حرصه على تعليم الأطفال والنساء في أفغانستان.

 

الاقتصاد الأفغاني الذي بُني وشُيد على مدى سنوات الاحتلال الغربي، بما يخدم الأجندة الغربية، وبما يعارض مصالح الشعب الأفغاني، كان اقتصاداً ريعياً بكل معنى الكلمة.

فميزانية أفغانستان تعتمد بأكثر من ثلاثة أرباعها على هبات وتبرعات الدول الكبرى،

نظير تقديمها تنازلات آنية أو بعيدة المدى من استقلال وكرامة الشعب الأفغاني،

وكشفت التقارير الغربية بكل وضوح عقب الهزيمة الغربية من أفغانستان عن حجم الفساد المخيف الذي نشره الاحتلال كثقافة وسط الأفغان وتحديداً وسط المسؤولين منهم،

وتجلى ذلك بوضوح في تهريب الرئيس الأفغاني المخلوع غني خريج الجامعات الأميركية لـ 169 مليون دولار أميركي خلال هروبه إلى الإمارات،

وفساد زوجته الباحثة العالمية والتي كانت تقدم نصائحها وإرشاداتها في أبحاثها لمعهد بروكينغر وغيره من المعاهد الأميركية،

ليكتشف الشعب الأفغاني فساد هذه النخب التي تعلمت ودرست، وحاضرت لعقود على العالم بالشفافية والحوكمة الرشيدة ونحو ذلك من اللافتات والشعارات التي أثبتت لاحقاً وعملياً أنها أبعد ما تكون عنها.

الاحتلال يواصل استخدام أدواته الإقليمية والدولية

الاحتلال الذي انسحب بقواته من أفغانستان، يواصل استخدام أدواته الإقليمية والدولية وحتى الأفغانية الداخلية، في محاصرة الشعب الأفغاني بقوت يومه، عبر فرض عقوبات اقتصادية عليه،

ولكن على الرغم من كل ذلك إلاّ إن هناك فرصاً اقتصادية ضخمة أمام الشعب الأفغاني وأمام الحكومة الحالية إن تم استغلالها واستثمارها بشكل لائق ومناسب،

ومثل هذه الفرص لا بد أن تتسق وتتناغم مع تحركات سياسية، ما دام الاقتصاد في جوهره وحقيقته، هو من يحرك السياسة،

والأخيرة تجلٍ من تجلياته، وبدون فهم الأخير وآلية عمله وتحركاته الدولية، ولاسيما الاقتصاد السياسي منه، لا يمكن تحديد الفرص الاقتصادية التي يمكن للشعب الأفغاني استثمارها واستغلاها.

 بداية وعلى الرغم من كون أفغانستان بحسب التعريف الجيوبوليتيكي دولة محبوسة، ومنغلقة وغير شاطئية، إذ لا منفذ بحري لها، إلاّ أنها دولة ترانزيت حقيقية لدول كثيرة،

فلا يمكن للبضائع الإيرانية ولا الباكستانية ولا الهندية ولا حتى الصينية من الوصول إلى أسواقها في آسيا الوسطى بوقت قصير، وكلفة متدنية، دون المرور في أفغانستان،

وهو ما سيوفر للأخيرة مداخيل اقتصادية مهمة بحصولها على حق مرور هذه المنتوجات إن كان من ميناء كراتشي،

أو ميناء تشاربهار وبندر عباس، أو من خلال نقاط حدودية على معابر باكستانية_ أفغانية، في طورخم وتشمن وغيرهما من المعابر،

ولا شك فإن مداخيل هذه المعابر ضخمة، وهي قادرة على ضخ بلايين الدولارات في ميزانية الدولة الأفغانية.

ترانزيت مرور أنابيب الغاز التركماني 

نقطة أخرى في مسألة أفغانستان كدولة ترانزيت، وهي كونها ترانزيت لمرور أنابيب الغاز التركماني إلى محطاتها في باكستان، فالهند، واليابان والشرق الأقصى،

وهو الحلم الذي داعب طويلاً ما تسمى بـ تركمانستان «كويت آسيا الوسطى»،

وتتنافس شركات غربية عدة منذ عقود على أن تحظى بهذه العقود ببيع الغاز التركماني المحبوس في أرضه،

لاسيما وأن تركمانستان لا تفضل بيعه للعالم من خلال الأراضي الروسية، ولذا فهي تسعى إلى مدّه عبر الأراضي الأفغانية ثم الباكستانية،

وبالتأكيد فإن توفير السلام والاستقرار في أفغانستان، من أهم ما يستلزم مدّ هذه الأنابيب،

وفي حال حصول هذا المشروع فإنه سيٌثّبت أولاً المشروع الطالباني، كون الدول ستكون أشد حرصاً على الاستقرار الأفغاني،

ومعها أيضاً الشركات العالمية صاحبة المشروع وديمومته، بالإضافة إلى المكاسب المادية التي ستجنيها أفغانستان من ورائه،

إذ يقدر البعض حجم مداخيل هذا المشروع كحق مرور الأنابيب فقط بمليار دولار أميركي سنوياً،

فضلاً عن حصول المناطق التي سيمرّ بها المشروع على غاز مجاني، كعادة المشاريع المماثلة التي تحصل في العالم،

فضلا عن آلاف فرص العمل للشبان الأفغان، العاطل عن العمل، والذين ينتظرون اليوم فرص عمل مهما كان شكلها.

فرص عمل ضخمة للشعب الأفغاني

 كمية وحجم المعادن التي تختزنها الأرض الأفغانية ضخمة، وقدّرتها بعض الأبحاث الجيولوجية بثلاثة تريليون دولار،

أي بـ 12 ضعف مما تحتاجه سوريا لإعادة بنائها من جديد،

وهو ما يعكس حجم هذه الثروة المعدنية الضخمة، ويقف على رأس هذه المعادن «مادية الليثيوم» لتصنيع البطاريات، وهو من المعادن النادرة في العالم،

بل ويتوقع أن كمية هذا المعدن في أفغانستان قد تشكل نسبته 40% من الموجود عالمياً،

وعلاوة على الليثيوم هناك مناجم النحاس والفحم الحجري والغاز الطبيعي، والمياه القادرة على توليد الطاقة الكهربائية من أنهار متدفقة،

وقد بدأت الصين في استثمار بعض هذه الموارد، في جنوب شرق كابول وكذلك في الشمال الأفغاني.

وكل هذه المشاريع من الطبيعي أن توفر فرص عمل ضخمة للشعب الأفغاني، مما يشكل إقلاعاً إقتصادياً حقيقياً، للبلاد إن تم استثماره، والتعاطي معه بذكاء وبواقعية.

معاناة الشعب الأفغاني

لكن ومع هذا فإن المؤشرات الدولية تتحدث عن معاناة الشعب الأفغاني، ويتحمل مسؤلية ذلك الدول الغربية التي لا تزال تحاصر الشعب الأفغاني،

وتعاقبه على حريته ودعمه لمقاتليه، فالدراسات الاقتصادية الدولية

التي كشفت عنها مجلة الفورين أفيرز الرصينة مرعبة ومخيفة ليس للأفغان وإنما للعالم كله،

لاسيما الدول التي خرجت من أفغانستان كونها المسؤولة بشكل مباشر على هذه التداعيات،

تقول الدراسات إن أكثر من نصف عدد سكان أفغانستان البالغ عددهم 23 مليون نسمة لن يجدوا ما يأكلونه بعد أسابيع فقط،

مع عجز الحكومة الأفغانية عن دفع رواتب موظفيها، نتيجة تجميد واشنطن لأموال الدولة الأفغانية،

وتتذرع واشنطن بأنها لن تفرج عن الأموال ما لم تُحسّن طالبان من سلوكها تجاه المرأة الأفغانية، والأقليات،

وسجلها في مكافحة ما يوصف بالإرهاب،

وكلها شروط بحاجة ربما لسنوات لنعرف تطبيقاتها على الأرض،

ولا يعرف أحدٌ معاييرها ولا أمد تنفيذها، الأمر الذي يدفع المواطن الأفغاني العادي ثمنها وضريبتها جوعاً، وفقراً وموتاً ومرضاً عاجلاً.

ثلاثة ملايين طفل أفغاني يعانون من سوء التغذية

 وبحسب المنظمات الدولية فإن ثمة ثلاثة ملايين طفل أفغاني، أعمارهم تحت سن الخامسة يعانون من سوء التغذية اليوم،

بينما تقدر هذه المؤسسات دخل الفرد الأفغاني الواحد سنوياً بـ 350 دولار

مما يضع البلاد في سلم الدول الأقل دخلاً في العالم، بحسب تصنيف البنك الدولي،

والذي يزيد فيقول إن ملايين من الأفغان أمامهم خياران إما العيش بالفقر في أفغانستان،

أو اللجوء إلى الهجرة،

أما الاقتصاد الأفغاني فيُتوقع له أن يتراجع بنسبة 30% مع نهاية العام الحالي، على حالة السوء والتدهور الذي هو فيه أصلاً نتيجة العقوبات الغربية.

الأوضاع المعيشية والاجتماعية

على المستوى الاجتماعي البلاد تعاني أصلاً من حالة القحط والجفاف،

فالريف الذي كان ملاذ المدن في حال تعرضت لضغوط اقتصادية صعبة، لم يعد ملاذها اليوم، فالكل يعاني من الفقر والقحط وغياب الرواتب،

مما يجعل الواقع الاقتصادي وتداعياته الاجتماعية خطير للغاية على تفكك المجتمع الأفغاني،

وتأثيره وانعكاسه كذلك على دول الجوار وربما الدول الأبعد في حال بدأ الشعب الأفغاني بالهجرة الجماعية من بلاده هرباً من الجوع والفقر والفاقة.

 بعض المانحين دعوا إلى معالجة سريعة للواقع بحيث تُفرج الولايات المتحدة الأميركية عن نصف مليار دولار عاجل دعماً للقطاع الصحي،

وهو الأمر الذي سيوفر دفع رواتب كادر هذا القطاع،

لاسيما وأن أي تحرك دولي لإغاثة الفقراء والمحتاجين بحاجة إلى سيولة نقدية وهي غير متوفرة الآن

في ظل العقوبات الأميركية على الحكومة الأفغانية،

التي من المفترض أن يتم التعامل معها كحقيقة واقعية،

وإلاّ فإن التداعيات ستصيب الجميع وليس الشعب الأفغاني أو الحكومة الطالبانية فحسب.

التحرك الخليجي

التحرك الخليجي والذي بدأته قطر بإصلاح مطار كابل بوابة أفغانستان إلى العالم الخارجي،

فضلاً عن لعبها دوراً في وصل العالم بأفغانستان، ووصل الأخيرة بالعالم،

بعد أن نقلت معظم السفارات الغربية مكاتبها من كابل إلى الدوحة،

وتشجعت أخيراً المملكة العربية السعودية ففتحت قنصليات لها في كابول سيساعد في تخفيف الضغوط الاقتصادية على الشعب الأفغاني،

لاسيما وأن هناك مئات الآلاف من العمالة الأفغانية في دول الخليج،

قادرة على توفير أكثر من مائة مليون دولار سنوياً كتحويلات تضخ في الاقتصاد الأفغاني،

بالإضافة إلى فتح خطوط طيران بين الرياض وكابول، وبين الأخيرة ودبي أيضاً، فمثل هذه التحركات ستفتح كوّة أمل أفغانية،

لاسيما وأنه في الأسبوع المقبل هناك اجتماع خليجي في الرياض لدرس كيفية الانخراط الخليجي بأفغانستان،

الذي تنظر إليه إيران على ما يبدو بعين القلق والتوجس، خصوصاً وأن ذلك تزامن مع اشتباكات طالبانية إيرانية على الحدود،

وإن تكن محدودة، لكنها مؤشر لدى البعض في كيفية سير السياسات الإقليمية في أفغانستان وما حولها.

من د. أحمد موفق زيدان

كاتب صحفي، سوري