إذا كانت الصين ترغب في إقامة نظام دولي رقمي قائم على الفرد، وهذا يتوافق مع بنائها الاجتماعي الذي يغلب عليه الصيغة الفردية، وفي أحسن الأحوال أسرة نووية، فضلا عن مراهنتها على الرقمية المجردة من أية روابط عقدية أو فلسفية أو أيديولوجية أو قيمية أو أي نوع من الهوامش، فإن الغرب، في المقابل، والذي ظل مهدا لإنتاج الأيديولوجيات والفلسفات الوضعية التي استهلكت تماما، بات يميل إلى إقامة نظام دولي على أساس «التمرد على الفطرة» بكل تنوعاتها بما في ذلك صياغة لغة خاصة به. والتمرد على خلق الله برمته، بل التمرد على الله! ودسترة التمرد شرعيا وقانونيا!
بين هذا النظام وذاك عوامل مشتركة كثيرة. لكن المؤكد أن كليهما لا سابق لهما في حياة البشر من حيث الجدة في المحتوى والأهداف. فأين البشرية مما يدبر لها؟ وأين الأمة مما يجري في خضم هذا الصراع الدولي؟
الثابت تاريخيا أن الصراعات الكبرى والحروب على تقاسم المصالح والنفوذ تسبق عادة تشكيل أي نظام دولي. وأن هذه الصراعات غالبا ما جرت وقائعها في أوروبا والشرق حيث الكثافة السكانية.
والأرجح أن الغرب يسعى إلى تحييد روسيا عبر الحرب الأوكرانية، وتهميشها في النظام الدولي القادم. لكن كيف سيتصرف مثلا مع الكتل السكانية الكبرى في الشرق كالصين التي خرجت من حدودها محملة بأعتى التكنولوجيا الرقمية، فضلا عن الهند التي تستعد للخروج التاريخي من حدودها، وتعمل على استعادة شبه القارة الهندية، بعصبية قومية ذات نزعة فاشية، محملة كالصين بمئات الملايين من البشر؟
كل هذا يجري وحال العالم العربي أشبه ما يكون، طبق الأصل! بحاله عشية الحرب العالمية الأولى. فقوى النظام الدولي تؤسس اليوم لقواعد وأدوات «التمرد على الفطرة» في العالم العربي، لتكون المنطقة الثرية مجرد وجبة دسمة جاهزة للالتهام والهضم عبر فرض نمط التمرد عليها.
المفارقة العجيبة في الأمر أن:
هذه القواعد والأدوات الهدامة، التي تعمل بتوجيه مباشر من سيداو وبدعم دولي وغربي صريح، تلعب اليوم بالضبط ذات الدور الذي سبق ولعبته بالأمس الأقليات والفرق الباطنية، التي جرى امتطاءها لتمرير الفكر القومي الأوروبي عشية هزيمة الدولة العثمانية لانتزاع سلطان الأمة، وصولا إلى تمزيق العالم الإسلامي برمته، عقديا وجغرافيا وسياسيا واجتماعيا، واستبداله بدول قومية، لم تكن على البال ولا الخاطر.
فكانت النتيجة الأولى،
تحت شعارات التحرر من الاضطهاد العثماني، والوحدة العربية: سايكس-بيكو في الشام،
وثانية في شبه القارة الهندية،
وثالثة في الجزيرة العربية،
ورابعة في بلاد الترك،
وخامسة في بلاد المغرب العربي.
واليوم،
تحت شعارات الحرية الجنسية والتخلص من «عنف» الذكور وحقوق «مجتمع الميم»، يسابقون الزمن لجر العالم الإسلامي، عبر هذه الأدوات والشراذم، إلى ثقافة سيداو و «التمرد على الفطرة»، حيث لا دين ولا تاريخ ولا أخلاق ولا هوية ولا أي انتماء حتى للبيولوجيا الجسدية. والأسوأ أن هذا الاستهداف يبدأ من مرحلة الطفولة من السنة الرابعة، عبر رياض الأطفال والمدارس والنوادي والمهرجانات والحفلات ووسائل الاتصال والتواصل والإعلام والفنون وغيرها. والأغرب والأعجب، عمليا وفعليا، أنهم تجردوا من أية مشاعر، حتى باتوا يستهدفون كل الفئات العمرية!
جدير بالذكر
ملاحظة أن هذه القواعد تشمل كل نظم سيداو، وخاصة نظم الثورات المضادة، وأدواتها كوزارات الأوقاف، ومشايخ التحريف والزندقة ومجتمعات الإلحاد والشذوذ وشلل النسويات، وقوى المرتزقة والمأجورين، وحتى الجهلة ممن لم يحصلوا على شهادة التعليم الأساسي، بالإضافة إلى الدبابير الإلكترونية، وسائر القوى الأيديولوجية، العلمانية واللبرالية، عبر حشد هائل من المنظمات الدولية بمختلف مسمياتها، وكذا المنظمات المحلية المصنعة، ووسائل الإعلام التابعة لها.
هؤلاء
لا ينفع معهم أي خطاب. فلم يعودوا يأبهون بأية روادع عقدية أو اجتماعية. وليس في حساباتهم قرآن ولا سنة ولا أمة ولا تاريخ ولا هوية ولا قيم ولا أعراف ولا عقل ولا منطق ولا مشاعر ولا حتى أية فطرة اجتماعية أو إنسانية تذكر.
هؤلاء
ذكورا وإناثا .. محجبات وسافرات .. ملتحون وهجينون وأمارد .. يعلمون علم اليقين أنهم أشد خلق الله انحرافا وشذ وذا. وينتقلون من حال إلى حال بحسب احتياجاتهم. فتراهم حينا يمجدون الشياطين ويترحمون على فرعون ويعتمرون ويؤمون المصلين في المساجد ويلحدون ويكفرون ويتحدون إرادة الله. لأنهم ببساطة مردوا على الردة والكبر والنفاق والكذب والتحريف والتضليل ومحاربة الله ورسوله، كما مردوا على الشذ وذ حتى وصلوا إلى «التمرد على الفطرة»، بل والتمرد على الله جل في علاه وكل خلق رباني.
هؤلاء
لاسيما ما يسمى بلغتهم «مجتمع الميم»، بلغ تمردهم حدا لم يسبقهم إليه قوم لوط عليه السلام. فهم يستهدفون «الفطرة» في كل مستوياتها: الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والبيولوجية واللغوية والدينية والأخلاقية والبيئية والكونية، بل وكل السنن الربانية في الخلق. فبعضهم، مثلا، ذكور يميل للذكور، وبعضهم إناث تميل لمثلها، وشريحة ثالثة لا تعرف نفسها لأي جنس تنتمي، ورابعة تتنقل بين هذه وتلك، وخامسة تميل إلى الحيوانات، وسادسة تائهة لا تريد أن تنتمي حتى إلى جنس البشر أو الكائنات الحية! ولعل أطرف شرائحهم تلك المتخصصة في علوم الجينوم، والتي تجتهد في التلاعب بالخريطة الجينية للحيوانات، بدعوى التقليل من عدوانيتها خلال التواصل فيما بينها! وكأن الحيوانات اشتكت لها من طغيان المجتمع الذكوري لديها!
هؤلاء
«مجتمع عدواني»، يعمل حثيثا على مصادرة كافة حقوق وحريات البشر. ولا يعترفون إلا بحرياتهم وتمردهم ولغتهم ومفاهيمهم ومصطلحاتهم وتعبيراتهم. بل ويتهمون ويجرمون كل من يخالفهم بحجة ممارسة «العنف» ضدهم حتى لو تعلق الأمر بكلمة أو رأي مخالف أو استفسار. فهم يعتبرون أنفسهم أرقى أصناف «النوع الاجتماعي»! وبالتحالف مع رأس الكنيسة الكاثوليكية صار الشو اذ بحسب البابا «أبناء الرب الذين يستحقون أن يكون لهم أسرة». وذهب الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي نصف إدارته من «المتحولين»، أبعد مما يتخيله العقل حين خاطبهم بالقول: «أيها المتحول جنسيا لقد صنعت على صورة الرب وتستحق الكرامة والاحترام والدعم»!
هؤلاء
لا يخيفون الأمة بقدر ما يشكل ظهورهم وطغيانهم وكبرهم نذيرا لكل البشرية وليس فقط للمسلمين. لكن إذا لم يتم مواجهتهم بشراسة وحزم ووعي وعلى كل مستوى سياسي واجتماعي وديني وتربوي وتعليمي وصحي و … فسيعيثون في الأرض فتنا وخرابا ودمارا لا سابق له.
ومع ذلك ينبغي ألا نتغافل عن أمر الله للحظة واحدة. فكما أنهم يمكرون فالله خير الماكرين. وفي مثل هذه الأوضاع، من الصحيح القول بأن حال البشرية الأقرب ما يكون إلى الفراغ والمجهول والاستعصاء والانسداد، يحيلنا تلقائيا إلى حال قوم لوط، عليه السلام.
في ذلك الحين كان المجتمع السيد ومي قد وصل إلى حالة من الانسداد والاستعصاء التام، حتى أنه لم يعد ثمة مبرر لبقائه. فالمشكلة التي بدأت في الميول ثم الشذ وذ، ثم التمرد، لم ينفع معها النصح ولا الإنكار ولا التذكير بقدر ما بلغ العجز النبوي حد القهر، الأمر الذي استدعى العقاب الرباني.
هنا بالضبط
لا مفر من ملاحظة أن حال البشرية أيضا بات اليوم أقرب ما يكون إلى لحظة الصبح. أوليس الصبح بقريب؟ بلى. فاللهم ثبتنا واستعملنا ولا تستبدلنا.
- د. أكرم حجازي يكتب: أعداء الأمة والدين - يونيو 26, 2023
- د. أكرم حجازي يكتب: الصراع العقدي لا يسمح بتعدد الآلهة - يونيو 23, 2023
- د. أكرم حجازي يكتب: التمرد على الفطرة - يونيو 13, 2023