لئن ازداد شهر ربيع الأنور نوراً بمولد نور الهدى سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولئن ازداد شرفاً بهذا المولد الشريف فإنه كان أيضاً محلاً لأحداث كبار غيَّرت وجه التاريخ، ففيه كان الوداع والفراق الأبدي لهذا النور النبوي الذي أضاء الدنيا برسالة التوحيد الربانية، هذا الفراق الذي أبكى عيون الصحابة وأحزن قلوبهم، فكان مصابهم بوفاته جللاً لا عزاء لهم بعده، ذلك أنه بوفاته صلى الله عليه وسلم انقطع خبر السماء ووحي الله عن الأرض.

نوقن أن الموت نهاية كل حي، وأن الرسول سيموت مثله في ذلك مثل كل البشر، قال تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} الزمر 30، وقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يهيئ أصحابه لذلك وكأنه يودع الحياة، فقال لهم في حجة الوداع {… لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحُجُّ بعد حجتي هذه} رواه مسلم، وقبل وفاته بأيام {خرج إلى أُحُد فصلى على الشهداء ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فَرَطكُمْ (سابقكم) وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت خزائن مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف بعدي أن تشركوا ولكن أخاف أن تنافسوا فيها (أي في الدنيا)} رواه البخاري.

وعلى الرغم من أن سورة النصر التي كانَ بها تبشيرٌ ظاهر بالنّصر لرسول الله صلّى الله عليهِ وسلّم ولِمن معهُ من المؤمنين، وبشارةٌ لهُ صلّى الله عليهِ وسلّم بالفتح الّذي أكرمه الله به، إلا أنها كانت في ذات الوقت إشارة إلى قرب انتهاء أجله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس رضي الله عنه {كان عمرُ يدخلُني مع أشياخِ بدر فقال بعضُهم: لم تُدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال إنه ممن قد علمتُم، قال فدعاهم ذاتَ يومٍ ودعاني معهم وما رأيتُه دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ*وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً حتى ختم السورةَ فقال بعضُهم: أمرنا أن نحمد اللهَ ونستغفرَه إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم لا ندري، أو لم يقل بعضهم شيئاً، فقال لي يا ابنَ عباسٍ أكذلك قولك؟ قلت لا، قال فما تقول؟ قلت هو أجلُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أعلمه اللهُ له (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) فتح مكةَ فذاك علامةُ أجلِك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) قال عمرُ: ما أعلم منها إلا ما تعلمُ} رواه البخاري

وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه {خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الناس وقال: إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله، قال فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر وكان أبو بكر أعلمنا} رواه البخاري.

بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يشعر بالوجع بعد حجة الوداع بأكثر من شهرين أي في نهاية شهر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة، وكان يقول لعائشة رضي الله عنها في مرضه الذي مات فيه {يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلته بخيبر…} رواه البخاري، يقصد الشاة المسمومة التي قدمتها له المرأة اليهودية يوم فتح خيبر، وهذا يوحي بأنه صلى الله عليه وسلم قتل بالسم فنال الشهادة كغيره من رسل الله الذين نالوها على أيدي قتلة الأنبياء.

ظهر المرض بالنبي صلى الله عليه وسلم في مطلع شهر ربيع الأول من العام الحادي عشر للهجرة، واستمر مرضه نحو عشرة أيام أو أكثر قليلاً، روت عائشة رضي الله عنها أنه {لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذن بلال فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقيل له إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد فأعادوا له، فأعاد الثالثة… فخرج أبو بكر فصلى، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فخرج يهادى بين رجلين كأني أنظر رجليه تخطان الأرض من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك، ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه…} رواه البخاري

وروى أنس بن مالك رضي الله عنه أن {أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم يضحك فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النبي صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر، فتوفي من يومه} رواه البخاري، وكان عمره صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلاثاً وستين عاماً.

وبين المولد النبوي والوفاة النبوية كانت أحداث وأحداث في شهر ربيع الأول، كان من أعظمها أثراً على الرسالة والأمة هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بأمر الله تعالى، حيث كان خروجه من مكة يوم الخميس أول يوم من ربيع الأول، ودخل يثرب لاثنتي عشرة خلت منه. هذه الرحلة المباركة التي أوجدت لنا المجتمع المسلم وأنشأت الدولة المسلمة الأولى التي استمرت قروناً طويلة قبل أن يسقطها أتاتورك في الشهر ذاته من عام 1341 للهجرة، وقدمت هذه الدولة العتيدة للإنسانية حضارة فريدة على مرّ الزمن، ولأهمية هذا الحدث العظيم أرخ به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه والمسلمون بعده التاريخ الإسلامي. وقد روى ابن أبي شيبة عن الشّعبيّ أنّ أبا موسى كتب إلى عمر [إنّه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ] فجمع عمر النّاس فقال بعضهم: أرِّخ بالمبعث, وبعضهم: أرِّخ بالهجرة, فقال عمر [الهجرة فرّقت بين الحقّ والباطل فأرّخوا بها].

بدأت أحداث الهجرة النبوية في شهر ربيع الأول من العام الرابع عشر من البعثة، ففي اليوم الأوّل منه بات علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فراش النبيّ صلّى الله عليه وسلم وتسجى ببردته، وبقي في مكة حتى يرد الودائع إلى أصحابها، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين المشركين وهم لا يرونه إلى غار ثور ومعه صديقه الصادق الصدوق صدّيق هذه الأمة وأفضلها أبو بكر رضي الله عنه، ومكثا فيه ثلاثة أيام وسط خوف أبي بكر على حبيبه ورسوله ورسالته، قال تعالى {إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} التوبة 40، وعرف المشركون مكان الغار بتتبع الأثر إلا أن الله سبحانه وتعالى أعماهم عن رسوله ومصطفاه مبلغ الرسالة صلى الله عليه وسلم.

خرج الصاحبان في اليوم الرابع من شهر ربيع من الغار، وشقا طريقهما الطويلة الشاقة في الصحراء ومعهما الدليل إلى يثرب، فدخلاها من ثنيات الوداع لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضَّحى وكادت الشمس تعتدل، فأقام في قباء ومعه أبو بكر رضي الله عنه ثم وصل إليها علي رضي الله عنه قادماً من مكة، مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قباء وبين أهلها من الإثنين إلى الجمعة، فخرج منها إلى المدينة المنورة، وهناك أقيمت أول جمعة في المدينة، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أقام المسجد النبوي وعمل هو وأصحابه في بنائه يداً بيد.

وبدأت دعائم الدولة الناشئة وركائزها، فكانت صياغة أول دستور لها بكتابة صحيفة المدينة المنورة، وهي الوثيقة التي حددت ونظمت العلاقات بين مواطنيها من المهاجرين والأنصار واليهود ومن لم يسلم من أهلها، ثم كانت بعد ذلك المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، مؤاخاة حقيقية كاملة بالأسماء وليست مجرد شعارات عاطفية، بل نزلت آيات كتاب الله تفصل بعض أحكامها، ومن نماذجها المؤاخاة بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، والمؤاخاة بين مصعب بن عمير وابو أيوب الأنصاري رضي الله عنهم جميعاً.

ولعل من أبرز أحداث شهر ربيع الأول غزوة بني النضير في السنة الرابعة للهجرة، وسببها ان رسول الله ذهب إلى يهود بني النضير يطلب منهم المشاركة في دية رجلين وذلك بموجب بنود صحيفة المدينة، فحاولوا اغتياله بإلقاء صخرة كبيرة عليه من فوق الجدار الذي كان يتكئ إليه، فغادر الرسول المكان مسرعاً وتوجه إلى المدينة بأمر الوحي جبريل عليه السلام، وأنذ بني النضير بالخروج من المدينة وألاَّ يساكنوه فيها بعد تعدد محاولات الغدر منهم وهذا ديدن اليهود في كل العصور والدهور، فرفضوا ذلك مستندين إلى دعم المنافقين لهم، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وحاصرهم ست ليال استسلموا بعدها وألقوا السلاح ووافقوا على مغادرة المدينة بعد أن خذلهم المنافقون، فسمح لهم صلى الله عليه وسلم أن يغادروا هم وذراريهم ولهم فقط ما حملت الإبل إلا السلاح، وقبل أن يخرجوا قاموا بتخريب ديارهم ومساكنهم بأيديهم، وفي أحداث هذه الغزوة نزلت سورة الحشر، ومن آياتها قوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} الحشر 2.

 

د. تيسير التميمي

من د. تيسير التميمي

قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس