قاربت عشر ذي الحجة على الانتهاء، وختامها يوم النحر الذي يصادف يوم الأربعاء القادم بإذن الله، إنه عيد ومكافأةٌ من الله تعالى لأمته ابتهاجاً بأداء عبادة الحج ركن الإسلام وفريضته، يتقرب فيه أبناؤها إلى ربهم عز وجل بصلاة العيد، قال {إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي} رواه البخاري، فهي من أول الشعائر أداء صلاة العيد شكراً لله عز وجل على أداء ركن الحج،

وصلاة العيد سنة مؤكدة واظب عليها الرسول ، ويستحب للمؤمن التبكير بالخروج إليها حتى يحصل له الدنوّ من الإمام وفضل انتظار الصلاة، قال تعالى {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ…} المائدة 48، 

ويستحب للمسلم يوم العيد أن يتطيب ويتجمل لأنه يوم زينة، فيلبس من الثياب أحسن ما لديه عند الخروج إلى الصلاة، قال تعالى {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ…} الأعراف 31، واقتداء برسولنا محمد الذي {كان يغتسل يوم الفطر والأضحى ويلبس بُرْدَيْ حَبْرَة} وهي من ثياب اليمن الفاخرة، وروت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه كان يقول {ما على أحدكم أن يكون له ثوبان سوى ثوب مهنته لجمعته أو لعيده !}.

ويستحب للمؤمن أيضاً الجهر بالتكبير، ويبدأ وقت التكبيرات بالخروج إلى صلاة العيد، وينتهي بصلاة عصر اليوم الثالث من أيام التشريق، أي أنها تستمر أربعة أيام.

فلْنحرص على إخراج الجميع لحضورها إظهاراً لشعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، واقتداء بالرسول الذي كان يخرج نساءه وبناته يوم العيد وإن كُنَّ لا صلاة لهن، فالغاية أن يشهدنها.

وفي يوم العيد يتواصل المسلمون ويجتمعون ويلتقون، فقد كان أصحاب رسول الله إذا التقوا يوم العيد يتصافحون ويهنئون بعضهم، فيقول المسلم لأخيه المسلم [تقبل الله منا ومنك] ويمكن أن يقول له أيضاً [أحياكم الله لمثله]، فليهنىء بعضنا بعضاً بالعيد ولنتصافح فيما بيننا، فبالمصافحة تَتَحاتُّ الخطايا والذنوب، ولنحرص على صلة الأرحام فإن الرسول قال {لا يدخل الجنة قاطع رحم} رواه مسلم، فإن هذه الصلة تعمق المودة والمحبة في النفوس، وتقوي الوشائج الاجتماعية بين المسلمين. فحق علينا زيارة الأقارب والأصدقاء والجيران وأسر الشهداء والأسرى المحررين والأسرى  في سجون الاحتلال، ولمن صعبت عليه الزيارة فله أن يتواصل مع أرحامه بوسائل الاتصال المتعددة.

وصلة الرحم لا يقصد بها الإحسان إلى الأقارب من النساء فقط بل هي شاملة للرجال والنساء، كما أن صلة المرأة لأقاربها من الرجال مستحبة مع أن حقها في الصلة آكد من حقهم. وقطيعة الرحم المأمور بوصلها لغير عذر شرعي حرام، لقول الله سبحانه {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} محمد 22-23، وتكون قطيعة الأرحام بترك الإحسان إليهم، أما إن تجاوزت ذلك إلى الإساءة فهي من الكبائر.

ومن حق الأطفال علينا في هذا اليوم أن ندخل الفرح إلى قلوبهم وأن نزينهم بالملابس وبممارسة الألعاب غير المحرمة، وبإعطائهم النقود والحلوى حسب الإمكان، وغير ذلك من مظاهر الفرح، فقد روى أنس رضي الله عنه {في الجنة باب يقال لها دار الفرح، لا يدخلها إلا من فرَّح الصبيان} ذكره ابن حجر في ترجمة محمد بن عبده بن حرب. هذا في الأوقات العادية، فكيف به في يوم العيد !

وتلي العيد أيام التشريق الثلاثة الفضيلة، وهي من الأيام المباركة التي ذُكر فضلها في السنة النبوية المطهرة، وهي من أيام النفحات التي حثنا على أن نتعرض لها ونغترف من خيراتها، وفيها فرصة سانحة لنا في تحصيل المزيد من الحسنات والإكثار من أعمال الخير، وفيها إظهار للفرح والسرور والتوسعة على النفس والأهل والأولاد بما يحصل لهم من ترويح البدن بما ليس بمحظور ولا شاغل عن طاعة الله تعالى،

ولكن لا بد من التذكير بحرمة صيام يوم الأضحى وأيام التشريق الثلاثة التي تليه : الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة لقوله {أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لِلَّه عز وجل} رواه مسلم، إشارة إلى أن الأكل في أيام الأعياد والشرب إنما يستعان به على ذكر الله تعالى وطاعته هذا من تمام شكر النعمة أن يستعان بها على الطاعات، وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه {هذه الأيام التي كان رسول اللَّه يأمرنا بفطرها وينهى عن صيامها} رواه أبو داود، فهي أيام احتفال وابتهاج أيضاً، قال {يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب} رواه الترمذي، ويستثنى من النهي عن صيامها المتمتع الذي لم يجد الهدي، لقول ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما {لم يُرَخَّصْ في أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهدي} أخرجه البخاري.

وهي أيضاً أيام ذكر لله عز وجل، قال تعالى

{… وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}

البقرة 203

وذكرُ الله عز وجل المأمور به في أيام التشريق يكون بعدة صور منها : ذكر الله عزَّ وجل عقب الصلوات المفروضة بالتكبير في أدبارها، وهو مشروعٌ إلى آخر أيام التشريق عند الجمهور. وذكره بالتكبير عند رمي الجمار أيام التشريق،

وهذا يختصُّ به الحجاج. والذكر المطلق، فإنه يُستحب الإكثار منه في أيام التشريق، وقد كان عُمر رضي الله عنه يُكبر بمنى، فيسمعه الناس فيُكبرون فترتج منىً تكبيراً. واستحب كثيرٌ من السلف كثرة الدعاء بهذا في أيام التشريق.

وذكرُ الله عز وجل المأمور به يكون بعدة صور منها ذكره عزَّ وجل عقب الصلوات المفروضة بالتكبير، وهو مشروعٌ إلى آخر أيام التشريق، ومنها الإكثار من الذكر المطلق بالتهليل والتسبيح، فلْنغتنم هذه الأيام بالذكر والدعاء والصدقات وفعل الخيرات ما استطعنا، ولْنتجنب قضاءها في المعاصي والآثام والملذات الممنوعة والتوسع في الملاهي المحرمة.

وكثيراً ما أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نختم بالذكر بعض العبادات، فبعد الحج قال سبحانه وتعالى

{… فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً…}

البقرة 200،

وبعد الصلاة قال

{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ…}

النساء 103،

وبعد صلاة الجمعة قال

{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

الجمعة 10،

ولما كانت أيام التشريق هي آخر أيام موسم فاضل فيها يكمل الحجاج مناسكهم وغير الحجاج يختمونها بالتقرب إلى الله تعالى بالأضاحي وبعد الأعمال الصالحة في أيام العشر فاستحب لهم أن يختموا هذا الموسم بذكر الله تعالى.

إن عشرة ذي الحجة التي ما زلنا نعيش في ظلالها هي أيامٌ وليالٍ مباركات تستحب فيها الطَّاعات، فلْنكثرْ فيها التقرب إلى الله تعالى بفعل أي نوع من أنواع الخيرات والأعمال الصالحات.

ولْنغتنم أيام التشريق للذكر والدعاء والعبادة ما استطعنا، ولْنتجنب قضاءها في المعاصي والآثام والملذات المحرمة، فعلينا ألاَّ نجعلها أيام معصية وتوسع في المحرمات كالأغاني والملاهي الممنوعة والمسكرات ونحوها مما قد يكون سبباً لحبوط الأعمال الصالحة التي عملها المسلم في العشر الفضيلة.

أعاد الله هذه الأيام المباركة علينا وعلى الأمة المسلمة كلها بالنصر والعزة والتمكين

د. تيسير التميمي

من د. تيسير التميمي

قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس