مرت ذكرى الإسراء والمعراج بعد احتفال الأمة بها، احتفال مهرجاني بالخطب والأناشيد والتواشيح والأفلام وما شابهها من الفعاليات الشكلية والعاطفية، وحدهم أبناء الشعب الفلسطيني يحتفلون بهذه الذكرى وغيرها منذ عقود بأسلوب مختلف، احتفالهم صبر ومصابرة على عدوان المحتل الغاصب والهمجي الغاشم والإرهابي الظالم، احتفالهم جهاد ومجاهدة في أرض الجهاد الماضي إلى يوم القيامة، احتفالهم رباط ومرابطة في أرض الرباط المستمر إلى يوم القيامة، ثبات على أرضهم وترابهم المقدس الذي يروونه بالدماء الزكية، وحدهم يتشبثون بفداء أرض المسرى ويدافعون عن هويتها حاسرين نيابة عن الأمة كلها، فالأمة تخلت عنه وعن قضيتها المركزية إلا من الشعارات الإعلامية والانفعالات الآنية، فاستفرد فيه عدوه وعدو قضيته يخطط لإنهائها كيف شاء وبالقرارات التي يشاء.

 

وإنه لأمر محزن جداً أن تكون الأمة الخيّرة المختارة هكذا، ضعيفة مستضعفة تتداعى عليها الأمم، ولكننا لا نفقد الأمل أبداً فالخير فيها إلى يوم القيامة، فستنتبه يوماً من غفلتها وستصحو من نومتها وستستعيد قوتها، هكذا عودتنا الأمة عبر تاريخها، فقد مرت بنكبات وكبوات صعبة كهذه التي نعايشها وأكثر، لكنها نهضت في كل مرة ونفضت عنها غبار الذل والضعف ووقفت شامخة واستعادت مكانتها ومقدساتها رمز كرامتها، وكان المحك في كل مرة المسرى وما حوله من أرض مباركة، وها هو التاريخ يسجل بشرف وتشريف قدرتها على تحريرها، ويشهد للأمة ولقادتها العظماء أنهم لم يصبروا على ضياعها وغزوها، بل هبوا لإنقاذها في كل مرة فجيَّشوا الجيوش وأعدوا العدة حتى حرروها من دنس الغزاة الغاصبين:

 

* فهذا صلاح الدين الأيوبي يكتب ملحمته الرائعة‏ “حطين” باستردادها من أيدي الفرنجة الصليبيين عام 1187م بعد اثنين وتسعين عاماً على احتلالها، متوّجاً بذلك جهود القادة الذين سبقوه باستنهاض الهمة وإيقاظ الأمة، فالقيادة الواعية البانية هي الأمل وهي حاملة المشعل الذي يحدد للسالكين دروب المجد، وينيرها بدين الهداية والتوحيد لإسعاد الإنسانية كلها

 

* وهذا الملك الصالح نجم الدين الأيوبي قد استردها عام 1244م بعد أحد عشر عاماً من وقوعا في يد الفرنجة ثانية،

 

* وها هما القائدان المظفران سيف الدين قطز والظاهر بيبرس يستعيدانها من قبضة المغول في موقعة “عين جالوت عام 1259م، فوضعا بذلك حداً لاجتياحهم العالم الإسلامي ووقف مدهم فيه.‏

 

وهذا برهان كبير على صدق من قال [إن الاستعمار مجرد جملة معترضة في حياة الشعوب‏] فإرادة الحياة والتحرير لدى الشعوب وسائر أبناء أمتنا حاضرة دائماً؛ وهي التي تحدد ساعة استدعاء هذه الإرادة بالثورة والمقاومة لنيل حقوقها وحريتها وكرامتها.

 

لقد كانت معجزة الإسراء والمعراج العظيمة قراراً ربانياً أعلنه الله عز وجلَّ وقرَّره وقدّره من فوق سبع سماوات، ورسَّخه وأبَّده بقرآن يتلى إلى يوم الدين، فمن ذا الذي يملك أن يقرر غير ما قرر الله سبحانه؟ حتى وإن كانت أعظم قوة على وجه الأرض، فيقيننا أن كلمة الله هي العليا، وأن الهوية الإسلامية لن تسقط عن مدينتنا المقدسة أو عن المسجد الأقصى المبارك أو عن سائر أرجاء فلسطين وترابها، ويقيننا أن كل قرار يناقض القرار الرباني هو باطل لا قيمة له، ولا يساوي الحبر الذي كتب به أو الورق الذي نشر عليه، فالأمة لن تسكت على ذلك وإن كان بين أبنائها من يتماهى مع مثل تلك القرارات الباطلة، فكما توقن أمتنا بأن البيت الحرام في مكة المكرمة جزء من عقيدتها ودينها فهي توقن كذلك بأن المسجد الأقصى المبارك في مدينة القدس جزء من عقيدتها، ولن تفرط فيها لأنها تعلم علماً يقينياً لا يتزعزع بأن التفريط فيها هو تفريط بالمسجد الحرام وبكل مقدساتها،

 

فلا يغتر أحد بأن الأمة الآن ساكتة، فهو موقف مؤقت لن تلبث بعده أن يتفجّر غضبها الجادّ فتقلب المعادلة، فالخوف دوماً من السكون الذي يسبق العاصفة، وما ذلك عنها ببعيد فهي أمة لا تموت، ومن يتدبر التاريخ يعرف أن الضعيف لن يبقى ضعيفاً إلى الأبد كما القوي الذي لن يستمر قوياً إلى الأبد، ولْينظر العالم كله إلى مصير قوم عاد رمز القوة التي لا مثيل لها فأصابهم الكبر والغرور؛ فهل استطاعوا الإفلات من وعيد الله أو من قبضته؟ قال تعالى {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} فصلت 15، أتاهم أمر الله وقد كانوا يستعجلونه، ونقول لهذا العالم الصامت الجبان الذي لا يتكلم أمام القوى العظمى: أين هم قوم عاد اليوم ؟ بل أين هم بعد سويعات مما أصابهم، قال تعالى {… أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} هود 60، وأين كل الجبابرة، أين الأكاسرة والقياصرة؟ كلهم ذهبوا ينتظرون وعد الله الحق، وسيمضي من يضاهئم اليوم في القوة والجبروت والطغيان إلى ذات المصير، إنها سنة كونية من سنن الله يستوي أمامها الجميع

 

إنني في ذكرى الإسراء والمعراج أحذر شعبنا الفلسطيني الأمين على مدينة القدس والقضية الفلسطينية؛ والذي سطر عبر العقود الطويلة الماضية بأحرف من نور وبدماء الشهداء الزكية أسطورة الدفاع عن قضيته الفلسطينية العادلة وبالقلب منها مدينة القدس، أحذره أن يَفْتُرَ في الدفاع عنها، بل عليه أن يفتديها بكل غالٍ ونفيس كما فعل الأخيار والشرفاء من أبناء الأمة وحكامها وقادتها وجندها على مدار التاريخ، أحذره أن يكون تحركه مجرد رد فعل لحظي غاضب تجاه إجراء ظالم أو قرار باطل يصفي حقوقه من أيّة جهة كانت، فهو وحده الذي يملك صناعة الحدث وتحريك الأمة بل العالم أجمع لأنه صاحب أعدل قضية في التاريخ المعاصر، وهو الذي يعاني حالياً أطول احتلال يشهده هذا الكون.

 

وفي ذات الوقت أطالب الأمة كلها في ذكرى الإسراء والمعراج التي نعيش أجواءها لليوم؛ أطالبهم بمساندة الشعب الفلسطيني ومؤازرته في هذه المعركة، فهو يدافع عن كرامتها وشرفها وعقيدتها، وأناشدها بالتسامي عن كل خلافاتها فالقضية التي تمس وجودهم أكبر وأقدس بكثير من المصالح التي يتنازعون عليها، وأؤكد لهم بأن حشدهم لكل إمكانياتهم وقواهم وطاقاتهم هو الطريق الأمثل لتحرير فلسطين التي تغنوا به على مدار العقود الماضية، وهو السبيل الأنجح والأصوب لإبقائها القضية المركزية في أولويات اهتماماتها بل حتى أولويات المجتمع الدولي وقضاياه الساخنة،

 

فلا يكفينا فقط أن نرفع الشعارات الرنّانة المستهلكة، ولا يفيدنا أن نعلن عن غضبنا لمواجهة أخبث مؤامرة عالمية خبيثة ضد أرض فلسطين المقدسة ومدينة القدس المباركة بل ضد القضية الفلسطينية لتصفيتها، ليس أمام الأمة بالإضافة إلى ذلك إلا ما اختاره الشعب الفلسطيني: الصبر والمصابرة والثبات والمرابطة، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران 200

د. تيسير التميمي

من د. تيسير التميمي

قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس