قبل أسابيع ابتدأ مهرجان العودة إلى المدارس، وفتحت صروح العلم أبوابها، ورجعت الحركة والحياة إلى ساحاتها، عاد إليها فلذات الأكباد من الأطفال والأشبال والشباب، عادوا لينهلوا من بحر العلم النافع بعد عطلة نالوا فيها قسطاً من الراحة تأهُّباً للدراسة والجد والاجتهاد، واستثمروا ساعاتها ولم يضيعوا ثمين لحظاتها، فالعمر هو أيامنا التي تتجدد مع إطلالة كل فجر وأنفاس كل صبح، وتنطوي مع كل غروب شمس وغيابها عن هذا الكوكب، فأعمارنا نعمة ربانية كبيرة لا يربح إلا من قضاها في العمل الإيجابي وإعمار الكون والحياة، ويخسر من أفناها في العجز والكسل والفراغ، فهي تمثل أعظم مسؤولياتنا، قال صلى الله عليه وسلم {لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه…} رواه الترمذي

 

يمثل الشباب -وبالأخص المتعلم- ثروة الأمة وغدَها الواعد بالقوة والتقدم والازدهار، فهم الذين يبنون آمالها ويرسمون معالم مستقبلها المشرق، لما يتصفون به من خصائص تميزهم عن الفئات العُمْرِيَّة الأخرى في المجتمع:

 

فهم يتمتعون بالنشاط والحيوية لأنهم في أوج الفتوّة والقوة والقدرة على العطاء، ويمتلكون الطاقة الفائقة التي ينبغي توجيهها إلى البناء وعمارة الوطن، وإلاَّ كانت وَبالاً عليهم، ويتصفون أيضاً بالجرأة والإقدام والشجاعة وترك الجبن والخوف، رأينا ذلك في مواقف الشباب الراغب بالشهادة يوم أحد، فقد أصروا على الخروج لمقابلة قريش خارج المدينة المنورة وعدم الانتظار حتى يدخلوها عليهم، فاستجاب صلى الله عليه وسلم لرأيهم هذا مع أنه مخالف لرأيه وقناعاته العسكرية، وتتلازم صفة الجرأة مع الرغبة بالتضحية والفداء وبذل النفس رخيصة في سبيل المبادئ والأفكار التي يؤمنون بها، فقد خلَّد القرآن الكريم موقف الشاب المؤمن الذي ضحى بنفسه إظهاراً للحق في قصة أصحاب الأخدود في سورة البروج، وسجل قصة الشبان الذين آمنوا بربهم فزادهم هدىً في سورة الكهف، والأمة التي يتصف أبناؤها بهذه الصفة عصية على أعدائها وقوية تنال مرادها وتحقق أهدافها.

 

ولا تفارق الشباب روح المغامرة والرغبة باكتشاف المجهول، ولعلها من متطلبات مواكبة التطور والبحث واكتساب المعرفة لاستخدامها فيما نفع الأمة وخيرها، فالتقدم الحضاري مرده إلى هذه المثابرة المستنيرة البعيدة عن التهور، والشباب المؤمن بعيد عن التقليد الأعمى، فمن سماته التفكّر والتدبّر والتحرّر من القيود استجابة لتوجيهه صلى الله عليه وسلم {لا تكونوا إمَّعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا} رواه الترمذي، لكن هذا التحرر لا يعني عدم الانضباط أو الاعتداء على حقوق الآخرين، بل يعني تحمل المسؤولية، فهو حرية مقيدة بالقيم والأخلاق والالتزام بتعاليم الدين التي تنظم حياته ليكون مالكاً لنفسه لا عبداً لشهواته.

 

وفي الشباب كانت نبوات وحكمة ورسالات، قال تعالى {يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِياً} مريم 12، وقال سبحانه عن سيدنا عيسى عليه السلام {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ} آل عمران 46.

 

أولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الشباب بعنايته ورعايته، ومن أبرز مظاهر ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يتلطف معهم في التوجيه بعيداً عن التعنيف والإحراج أو تسفيه الرأي، فيغفر لهم زلاَّتهم ويقدر بطولاتهم، ورباهم صلى الله عليه وسلم على العقيدة والخلق والرجولة ليكونوا الصفوة التي تعتمد عليهم الأمة في لحظاتها الحرجة ومواقفها المصيرية، فكانوا الرعيل الأول الذي قامت الدعوة في بدايتها على كاهلهم، وكان أكثر أتباعه في تلك الفترة من الشباب الذين أثَّروا في ترسيخ قواعد الإسلام وأركانه، ونشر أسسه، وكان يعهد إليهم بالمهام الخطيرة، فأول فدائي في الإسلام الشاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي نام في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة، ودور الشابَّيْن عبد الله بن أبي بكر وأخته أسماء رضي الله عنهم في الهجرة النبوية له أهميته في نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم ووصوله إلى يثرب، وتكليف الشاب أسامة بن زيد وهو في الثامنة عشرة أو أقل بقيادة جيش فيه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لمواجهة الروم على مشارف بلاد الشام له دلالة عظيمة.

 

ومن أهم مظاهر رعاية الشريعة الإسلامية للشباب الكشف عن طاقاتهم الكامنة وتوجيهها، ومن ذلك:

 

1- توجيه الطاقات المعنوية والفكرية إلى ما ينفع الناس، كالدعوة إلى دين الله والاجتهاد بياناً للأحكام الشرعية، فصاروا مرجعية الناس في العلم والفقه: فقد قال صلى الله عليه وسلم {أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرؤهم أبيّ} رواه الترمذي، ووضع صلى الله عليه وسلم يده على كتفَيْ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ثم قال {اللهم فقِّهْهُ في الدين وعلمه التأويل} رواه أحمد، {وبعث علياً إلى اليمن قاضياً فقال يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضِيَنَّ حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء} رواه أبو داود، وأوكل أبو بكر رضي الله عنه بمهمة جمع القرآن الكريم إلى زيد بن ثابت فقال له [إنك رجل شاب عاقل ولا نتَّهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتَتَبَّع القرآن فاجمعه، قال زيد فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به] رواه البخاري.

 

2- توجيه الطاقات المادية برعاية القوة الجسمية كممارسة الرياضة، قال عمر بن الخطاب [علموا أولادكم السباحة والرماية والفروسية]، وبالحث على العمل والكسب المشروع، قال صلى الله عليه وسلم {ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده} رواه البخاري، فنبي الله داود لم يمنعه العرش والملك أن يعمل حداداً لينفق على نفسه، وأيضاً بتهذيب الغريزة الجنسية من خلال الزواج وبناء الأسرة لإشباع الاحتياجات الفطرية وتلبية الأشواق النفسية والمشاعر الإنسانية، دون إغفال متطلبات الروح والعقل والجسد باعتدال وتوازن، قال صلى الله عليه وسلم {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} رواه البخاري، فإساءة إشباعها يغرق صاحبها في سعار محموم يلهث وراءه دون ارتواء، والنجاة منه بالعفة واتباع الحلال، قال صلى الله عليه وسلم {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله} رواه البخاري.

 

3- المشاركة في العمل التطوعي، فالرجل الصالح الذي صحبه سيدنا موسى أقام جدار الغلامين اليتيمين تطوعاً، قال تعال {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} الكهف 77، وقال صلى الله عليه وسلم {كل سُلاَمَى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة وتعين الرجل على دابته فترفع عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة وتميط الأذى عن الطريق صدقة} رواه البخاري. وتعاون الصحابة في حفر الخندق بمشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن قبلُ كانوا قد تعاونوا بمشاركته صلى الله عليه وسلم في بناء المسجد.

 

وتكمن قيمة العمل التطوعي في المجتمع أن فيه نماء الخير وزيادة العطاء، ونمو روح الجماعة والشعور برضا النفس وطمأنينة القلب، وهذا ثمرة المشاركة الوجدانية التي يستشعرها من يخالط الناس بكل إيجابية وفاعلية وهي خير من اعتزال الناس، قال صلى الله عليه وسلم {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم} رواه الترمذي، وما أحوج شبابنا اليوم إلى ترجمة ولائهم لأمتهم وانتمائهم لمجتمعهم ووطنهم بالمشاركة في ميادين العمل التطوعي:

 

* فيمكنهم مساعدة الفقراء والأيتام والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة، قال صلى الله عليه وسلم {الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله}، ورعاية أسر الشهداء والجرحى والأسرى من صور الجهاد في سبيل الله، قال صلى الله عليه وسلم {من خلف غازياً في سبيل الله في أهله بخير فقد غزا} رواه البخاري، والمشاركة في بناء المدارس والمشافي ومراكز الخدمة الاجتماعية والمنتديات الثقافية من الأعمال التطوعية التي تسهم في تقديم الخدمات للناس، وللعناية بالبيئة والحد من التلوث بتخضير الأرض وزراعة الأشجار حينما يسمح وقتهم دور في إضفاء الجمال وزرع السلوك الإيجابي لدى الشباب في كل الظروف حتى عند انقطاع الأمل في الحياة كما علمنا صلى الله عليه وسلم بقوله {إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فلْيفعلْ} رواه أحمد، وليعلم شبابنا أن المشاركة في برامج محو الأمية والتدريب على المهارات المؤهلة للمهن توازي رسالة المعلم.

 

فالشباب إذن عنوان تقدم الأمة ودعامة نهضتها، فمن أراد معرفة مستقبل الأمة فلينظر إلى شبابها واهتماماته لا إلى ذهبها وثرواتها واقتصادها وعمرانها فقط، فإذا كان ذا خلق ودين عاملاً ومنتجاً فإنها ستكون أمة جليلة الشأن قوية البناء، أما إن كان هابط الخلق منشغلاً بسفاسف الأمور يتساقط على الرذائل فستكون ضعيفة مفككة سرعان ما تنهار أمام العدو.

 

ولأن الشباب في كلّ أمّة هم عماد حياتها وقوّة نهضتها وصنّاع حضَارتها وحاملو لوائها وقادتها إلى المجد، فلابد من تعليمهم ورعايتهم وتربيتهم وتدريبهم، فهم السياج الواقي للدولة وللمجتمع، وهم العواصم من القواصم التي تهددها في معتركات الحياة.

د. تيسير التميمي

من د. تيسير التميمي

قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس